محاولات تسوية عديدة
لا تمثل المجابهات المباشرة والمتطرفة جميع المواقف. وأولئك الذين يسعون جاهدين إلى التوفيق بين الإيمان المسيحي والعلم الحديث هم كُثر. ولكنّ هامش المناورة وحرية التعبير حول هذه النقطة يختلفان فيما بين الإكليريكي أو العلماني أوالكاثوليكي أو البروتستانتي. وتمّ البحث في طريقتين: الأولى هي محاولة التوليف بين التطورية والمسيحية عن طريق إعادة تفسير العقائد المسيحية والمدوّنة اللاهوتية بشكلٍ ليبرالي؛ والثانية هي تقرير مبدأ استقلالٍ بين مجالي العلم والإيمان. ويسمى هذان الموقفان المتميزان بـ الحداثة[1] وأدانتهما كما هما السلطة التعليمية الكاثوليكية عام ١٩٠٧
أما الكنائس البروتستانتية والبريطانية، وخلال الحقبة نفسها كانت في غالبيتها تحت سيطرة مواقف تجديدية. وقد جرت محاولاتٌ لتكييف الرسالة الدينية حتى قبل صدور كتابأصل الأنواع عن طريقبادن بول[2] (Baden Powell) مثلاً. وهذا العالم بالرياضيات وعضوٌ في الإكليروس الأنجليكاني وأستاذ في أكسفورد هو أحد أبرز ممثلي اللاهوت الليبرالي الأنغليكاني. فقد حاول جاهداً أن يطلق تصوراً مسيحياً حول التطور في كتابه The Order of Nature: Considered in Reference to the Claims of Revelation الذي صدرعام ١٨٥٩. وبعد نصف قرنٍ، مثّل أسقف برمنغهام المستقبلي، إيرنست ويليام بارن[3] هذا التيار الهادف إلى التوفيق بين الخطاب الديني ونتائج العلوم الحديثة. وخلال عشرينيات القرن الماضي، ألقى في كنيسة الهيكل في لندن سلسلةً من المواعظ الدينية المعروفة بعنوان "خطب الغوريلا" حول نظرية التطور التي اعتبرت نوعاً من التطور بحسب قوانين الأصل الإلهي. ونشرعام ١٩٣٣ كتاباً بعنوان النظرية العلمية والدين. العالم بحسب العلم وتفسيره الروحي Scientific theory and religion. The World Described by Science and Its Spiritual Interpretation وأثارت آراؤه وبخاصة معارضته لعقيدة "الوجود الحقيقي" للمسيح في سر القربان المقدس مجادلات ولكنّ موقفه داخل الكنيسة الأنغليكانية لم يشكّك فيه.
من جهته، موقف السلطات الكنسية الكاثوليكية هو أكثر تصلباً. وهو يتّبع الخط الذي رسمته الرسالة البابوية Quanta Cura التي صدرت عام ١٨٦٤، حيث يتعارض "العلم الزائف" مع "العلم الحقيقي"، الذي يتوافق مع الوحي الإلهي، وهو "نجمٌ" مهمته توجيه العالم ومساعدته على تجنب الصعوبات والأخطاء. وهكذا، لا تترك السلطات الكاثوليكية سوى مجال محدود أمام العلماء الكاثوليك في ميدان القبتاريخي والعلوم الطبيعية، ولكنها فقدت أي سلطةٍ احتكاريةٍ على المؤسسات كانت تتمتع بها في بعض الدول يوم برزت قضية غاليليو. ولم تحرّم الكتب العلمية بما في ذلك كتب داروين. ولكنّ الإكليريكيين الذين يؤلفون كتباً حول موضوعاتٍ اعتبرت خطيرة على الصعيد العقائدي تتم مراقبتهم ويجبرون، عند الاقتضاء، على التراجع أو التزام الصمت. وبموازاة ذلك، بُذلت جهودٌ جماعيةٌ من جهة لإدانة افتراضات العلماء الذين يجاهرون بالحيادية وينتقدون الديانات بشكلٍ عام والديانة الكاثوليكية خصوصاً، ومن جهةٍ أخرى، لإيجاد علمٍ كاثوليكي انطلاقاً من افتراضاتٍ معرفية أخرى
.
وباشر إكليريكيون وعلمانيون بهذا العمل، بحضور المونسنيور Maurice d'Hulst في باريس والمونسيور Francois Duilhe de Saint- Projet في تولوز ومؤسساتٍ كاثوليكية من هاتين المدينتين مع الحفاظ على علاقةٍ مع الأوساط الكاثوليكية التي لا تؤيد الاعتراف. ونُظمت خمسة "مؤتمراتٍ علمية ودولية للكاثوليك" بين سنة ١٨٨٨ وسنة ١٩٠٠. ونُشرت نقاشاتهم في صحافةٍ طائفيةٍ كمجلة الأسئلة العلمية التي تأسست عام ١٨٧٧. ولكنّ هذه المبادرات قد أثارت ريبة روما وانتهت حتى قبل أن يدين البابا بيوس العاشر عام ١٩٠٧ "الحداثة" بشكلٍ شامل. وفي العقود اللاحقة، أُجبر الإكليريكيون الذين يتابعون أبحاثهم حول هذا الميدان على توخي الحذر الشديد أو المخاطرة والتعرض للعقوبات. وتجنب العالم القبتاريخي هنري بروي (Henri Breuil)، أن يتخذ موقفاً بشأن قضية التطور مع العلم أنه استند إليها في أبحاثه. واضطُر الراهب اليسوعي Pierre Teilhard de Chardin[4] وهو الإختصاصي بعلم المتحجرات إلى مغادرة فرنسا إلى الصين ومُنع عن نشر أبحاثه. فانتشرت مخطوطاته في الخفية ولم تنشر إلا بعد مماته. ولكنّ حالٌة هنري دي دورلودت[5] (,Henri de Dorlodot) كانت أقل شهرةً ولكنها معبرة. وكونه أستاذ الجيولوجيا في جامعة لوفان الكاثوليكية، استوحى خصوصاً من أفكار سان جورج جاكسون ميفارت[6] (St.George Jackson Mivart) وهو عالم تشريح كاثوليكي إنجليزي كان قد عارض داروين باسم تصورٍ ألوهي للتطور. ولم تكن مدافعته عن ميزة الإنسان الاستثنائية، وهي أنّ "الروح" نتيجة خلقٍ خاص، قد حالت دون تحريم العديد من نصوصه وحُرمه في كانون الثاني/يناير عام ١٩٠٠. وبعد مرور عشرين سنة، نشر دورلودت كتاب الداروينية من وجهة نظر الكثلكة القويمة
(راجع محاولة قراءة كاثوليكية للداروينية). وأكثر فيه استخدام الصيغ الحكيمة ونال تصريحاً بالطبع من روما. وتُرجم الكتاب إلى الإنجليزية. ولكنّ السلطات الكاثوليكية قد عدلت عن رأيها. وطالبته اللجنة التوراتية بالتراجع علناً عن هذه الطروحات. وحشد دورلودت شبكاته في الأوساط الجامعية وتم القبول بالوضع القائم. ولكنه لم يعلن عن تراجعه هذا، بل التزم بعدم نشر المجلد الثاني من كتابه الذي كان من المفترض أن يتناول الإنسان بشكلٍ خاص.