إنشاء الفضاء الأوروبيّ-متوسطيّ كفضاءٍ ناقلٍ للإبتكارات التقنيّة
إنّ الفضاء الأوروبيّ المتوسطيّ هو واحدٌ من الفضاءات الأولى الّتي احتلّها الطيران. يبدأ تاريخ الطيران المدنيّ في 28 كانون الأوّل/ ديسمبر سنة 1912 عندما قطع، على مراحل،رولان غاروس[1](Roland Garros) المسافة الفاصلة بين قصر السعيد، القريبة من تونس وروما. وتمّ تأكيد هذه الرحلة الجويّة في 23 أيلول/ سبتمبر سنة 1913، عن طريق اجتياز المسافة مباشرةً، ومن دون توقفٍ، من فريوس (Frejus) حتّى بنزرت (Bizerte). أمّا بالنّسبة إلى الطيران العسكريّ، فقد تمّ استخدام الطائرات للمرّة الأولى خلال حرب البلقان بين سنة 1912- 1913. وقد مرّ تاريخ الطيران هذا في ثلاث مراحل خصوصًا.
تميّزت المرحلة الأولى (1913-1928) في تعدّد الغارات[2] وإنشاء الخطوط الجويّة الأولى الّتي تنقل بشكلٍ خاصّ البريد. وهكذا، منذ آذار/مارس سنة 1919 أنشأبيار لاتيكوير[3] (Pierre Latecoer) أوّل خطّ جويّ يربط بين تولوز (Toulouse) والرباط (Rabat). ونفّذ، بين سنة 1920-1925 عددًا كبيرًا من الغارات على أفريقيا السوداء، بعد التحليق الأوّل الّذي أنجزه ديديه دورا (Didier Daurat) سنة 1918. وهذه الخطوط هي إذًا نتيجة مبادراتٍ خاصّةٍ في أساسها، مثل البريد الجويّ، يقودها متعهّدون وطيّارون أوروبيّون. وتظهر في أواخر هذه المرحلة شركات الطيران الأولى الّتي تنقل المسافرين ومن بينها: الطيران الأفريقي الّذي تأسّس سنة 1928. وقام طيران الشرق، والخطوط الجويّة الإمبراطوريّة أو الخطوط الجويّة الملكيّة الهولنديّة (KLM)، برحلاتهم الأولى إلى الهند عن طريق مطارات الشرق الأوسط: بيروت، دمشق ولاسيّما بغداد الواقعة في وسط المسار. وعلى المستوى العسكريّ، يكمن العنصر الجديد في نشوء المساحة الّتي غلب عليها الإسلام، دولٍ مستقلّة شكّلت أسطولًا جويًّا عسكريًّا. وكانت السّلطنة العثمانيّة قد اتّخذت مبادرات في هذا الصدد، منذ العام 1909 وسلكت شبه الجزيرة العربيّة السعوديّة هذا المسار منذ أواخر سنة 1920. وتستخدِمُ الدول الإستعماريّة الطيران بطريقةٍ مختلفةٍ: ففرنسا تراهن أكثر فأكثر على السلاح البحريّ مما تراهن على الطيران في مستعمرات شمال أفريقيا، وتدير الطائرات وعديدها المسلّحة بطريقةٍ مركزيّة من باريس. في حين يراهن تشيرشل وزير الحرب البريطانيّة سنة 1919-1920، أكثر فأكثرعلى إنشاء وحدات جويّة في كلّ مستعمرةٍ أو بلادٍ منتدبةٍ وخاصّةً في مِصرَ والعراق. ومهما يكن من أمرٍ، فقد أضحى السلاح الجويّ ذا استعمالٍ شائع خصوصًا في النزاعات، مثل الحرب في بلاد الشام، حيث اشتهر مرموز الشاب (Mermoz) الّذي شارك في حرب الريف سنة 1925-1927، وثمّ شارك في قمع الثورة السوريّة في سنة 1924-1925 وسنة 1927.
• بين سنة 1928-1950، تمّ إنشاءُ الشركات الجويّة الكبرى في حين نظّمت شبكة جويّة ثابتة وفعليّة. وأدّت الدول الكبرى دورًا أساسيًّا في هذا التنظيم، وخصوصًا فرنسا وبريطانيا العظمى وهولندا. وبالنّسبة إلى هذه القوى الإستعماريّة، تتيح التحكمُ بالفضاء بتأمين استمراريّة كبرى بين البلد الأمّ والمستعمرات. تمّ تأسيس الخطوط الجويّة الفرنسيّة سنة 1933، بعد دمج عددٍ من الشركات الّتي كانت تؤمّن حتّى ذلك التاريخ خطوطًا متخصّصة ( أيّ الخطوط الجويّة الفرنسيّة، الخطوط الجويّة الروسيّة، شركة الملاحة الجويّة الدوليّة، الجمعيّة العامّة للنقل الجويّ والبريد الجويّ). أمّا خارج أوروبا، فقد تأسّست شركة مِصرَ للطيران سنة 1932، وهي الشركة الجويّة السّابعة الّتي تمّ إنشاؤها في العالم. وبعد التراجع الّتي شهدته الخطوط الجويّة باتجاه أمريكا الجنوبيّة، تبقى الخطوط الجويّة الّتي تربط أوروبا بالشرق الأقصى عبر الشّرقين الأدنى والأوسط أساسيّة، وكذلك الخطوط الّتي تربط أوروبا-أمريكا الشماليّة. وبقيَ الأمرُ على حالهِ حتّى عامّ 1946، حين افتُتحَ خطٌّ جديدٌ يمرٌّ بالقطب الشماليّ. وبقيت الخطوط الجويّة نحو أفريقيا أمرًا ثانويًّا. فضلًا عن وجود الطائرات الّتي اعتبرت وجه الحداثة التقنيّة، تساهمُ إنشاء الخطوط الثّابتة أيضًا في نشر تكنولوجيّات أو علومٍ أخرى ( مثل الإتّصال اللاسلكيّ خصوصًا، المحطّة الهرتزيّة وعلم الأرصاد) بالإضافة إلى المعايير التقنيّة. فعلى سبيل المثال، منذ سنة 1923 وبفضل الخطوط الجويّة البريطانيّة تمّ إنشاء سلسلة شبه متواصلة لمحطّات الأرصاد الجويّة التابعة لطيران الخدمات الملكيّة والّتي تمتدّ من أبو قير، القريبة من الإسكندريّة، حتّى بغداد. نشرت الحرب العالميّة الثانية هذه الإبتكارات والمعايير على نطاق أوسع، حين أصبح الفضاء الأوروبيّ-المتوسطيّ ميدان جويّ للمعارك بشكلٍ خاصّ سنة 1941-1944.
• منذ خمسينيّات القرن العشرين وحتّى أيّامنا هذه، تطوّر زمن الطيران التجاريّ على صعيد نقل البضائع وكذلك الركّاب. وينتهي إنتشار الملاحة الجويّة مع ظهور شركات الطيران في المستعمرات (طيران المغرب سنة 1946، الخطوط الجويّة الجزائريّة سنة 1947 وغيرهم...) والّتي تحوّلت، عند الوصول إلى الإستقلال، إلى عبارة عن سيادة الدول الجديدة. وعلى سبيلِ المثالِ، هذه هي حالُ الخطوط الجويّة العراقيّة (1946)، وطيران الشرق الأوسط ( بيروت 1951)، والخطوط الملكيّة المغربيّة (1956) والّتي تزوّدت بطائراتٍ أميركيّةٍ تأكيدًا لهيمنة الملاحة الأميركيّة الّتي بدأت خلال الحرب العالميّة الثانية. وتعميمًا لإستعمال الطائرات النفّاسة للمسافات البعيدة (عابرة القارّات)، في ستينيّات القرن العشرين، ساهمت هذه الشركات في توسيع الحجّ إلى مكّة الّتي استقطبت حوالي مئةَ ألفِ شخصٍ سنة 1950 وأربعمئةَ ألفِ شخصٍ في ستينيّات القرن العشرين وحتّى أربعة ملايين شخصٍ اليومَ. ففي سنة 1979، هبطَ على الأقلّ ستمئة طائرة في اليوم في مطار جدّة. ويساهم هذا في إنتشار أشكالٍ أخرى من التطوّر: إنطلاقًا من سنة 1959، أجبرت منظّمة الصحّة العالميّة كلّ مسافر وكلّ حاج على تقديم شهادة تلقيح ضدّ الكوليرا، والحمّى الصفراء والجدري، تسهم في نشر المعايير