انخراط جنيف في الاصلاح
بانخراطها في العقيدة الإصلاحية، في سنة 1536، قطعت جنيف علاقتها مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. تأكد تبني الأفكار الإصلاحية مرورا بثلاث مراحل. تزامنت المرحلة الأولى، من سنة 1525 إلى 1532، مع انتشار أفكار لوثر و زوينجلي[1] عبر التجار الألمان وقساوسة حلفاء البرنيين. المرحلة الثانية، 1532 إلى 1543، وهي فترة توطيد. اصطدم المؤيدون والمعارضون لهذه الأفكار الجديدة في الأماكن العامة. تضع السلطات البلدية دعاة كلا الطرفين تحت وطأة الرقابة، وفقا لضغوطات حلفائها combourgeois : فربيورغ مدينة كاثوليكية أو برن حاضرة إصلاحية منذ 1526. تمثل القطيعة التامة، من سنة 1543 إلى 1536، مع الأسقف ومدينة فريبورغ بعد قضية بورتر المرحلة الثالثة من تطبيق الأفكار الإصلاحية. تحت تأثير برن، تحقق التزام السكان بالإصلاح تدريجيا. ثمّ تعليق الاحتفال بالقداس في 1535. صادق المجلس العام، في مايو 1536، على الانخراط الرسمي في الإصلاح وحقّق هكذا نصرا سياسيا لبرن إزاء فربيورغ. أصبحت الجمهورية السيادية بروتستانتية. بدأت التغييرات المؤسسية الناجمة عن الاختيار العقائدي الجديد للمدينة منذ يوليوز 1536. تمثل بعض هذه التغييرات ابتكارات في حين تعتمد الأخرى على تعديلات الهياكل الموجودة سابقا.
قدم كالفن وفارل، في سنة 1537، مشروعهما المراسيم الكنسية (انظر الرابط) القائمة على مبدأ "عدم تبعية" الكنيسة إزاء الدولة، لم يعرف هذا المبدأ قبولا لدى المجالس. ركز الخلاف بين القضاة والمصلحين على مدى سلطة الكنيسة التأديبية سبب ذلك بوسم كالفن وفارل بالعار مما جعلهما يغادرن المدينة في سنة 1538. بقي أنصار الممارسات البرنية usages bernois الذين وافقوا على خضوع الكنيسة لسلطة الحكام المدنية ضد مؤيدي الاستقلال الكنسي، إلى غاية 1541. قاد فشل مؤيدي المبادئ البرنية، في سنة 1541، وذلك تحت تأثير سياسي إلى تبني المراسيم الكنسية في المجلس العام. استدعي كالفن إلى جنيف وتمكن من تنفيذ إصلاحه الديني والسياسي. استوحى دعاة المراسم الكنسية، النموذج الستراسبورغي الذي وضعه مارتن بوسر[2] (1491-1551) Martin Bucer، ويقول بمبادئ أربعة "وزارات" مخصّصة للوعظ والتدريس والانضباط وممارسة الأعمال الخيرية؛ ويرأس الأربعة على التوالي جماعة قساوسة ودكاترة وأعضاء المَجمع الديني والشمامسة. ينظم دعاة المراسيم الكنسية إدارة الطقوس الدينية والاحتفال بالزيجات والجنائز وزيارة المرضى والسجناء والإرشاد الديني.
سيادة الكنيسة لا تخضع للسلطة السياسية لكن تتصرف بتنسيق معها، وهو ما يتضح خاصة من خلال نشاط المجمع الديني الذي يراقب عن طريق تأنيبات لكن يفوض عقاب الحالات الأكثر خطورة للحكام. العقوبة القسوة التي يطبقها المجمع الكنسي هي الحرمان من العشاء الاخي[3]ر، إنه قرار حرمان قوي للغاية بالنسبة لمجتمع تلك الفترة. بالنسبة للمحروم كنسيا يصبح من الصعب عليه الزواج ورعاية الاطفال، وبالتالي المشاركة في الافعال وفي طقوس المؤسسة للرابط الاجتماعي بين أفراد المجموعة. الحرمان الكنسي ينبذ الفرد، وضعية تضر بحياته اليومية وعمله. لمواجهة الآثار الاجتماعية لمثل هذه العقوبة، يحاول المحرومون ويبدلون كل ما في جهدهم إعادة الاندماج في الطائفة. إن إنشاء مثل هذه المؤسسة للرقابة الاجتماعية مصدر توترات بين السكان وكالفن. مع ذلك، ورغم العداءات والمقاومات، ليس هناك من شك في العقيدة الإصلاحية وليست هناك رغبة جلية للعودة إلى الكاثوليكية.
شارك كالفن، بالإضافة إلى أنشطته الدينية، في إعداد مراسيم وتعليمات من شأنها إعادة تنظيم النسق القانوني والسياسي لجنيف سنة 1543. وللقيام بذلك، اعتمد على البنيات السياسية الموجودة سابقا. إن ال"مراسيم السياسية" (انظر الرابط) لسنة 1543 أو "مراسيم الخدمة الكنسية والقائمين عليها"، تحدد تنظيم السلطات ونوعية الانتخاب وصلاحية وامتيازات كل حاكم. إقامة نظام دمج سياسي بين المجلس العام والمجلس الصغير ومجلس المائتان، يعطي مزيدا من الصلاحيات إلى المجالس المصغرة، ويحد من سلطة المجلس العام. حسب مونتي W. Monter في الوقت الذي كانت فيه الدولة خاضعة ل"كلمة الله"، يلتزم المجلس الصغير بنفس مبادئ أمراء الأوروبيين الآخرين : كل وظيفة عمومية عبء، واجب "الخضوع لله" وليس وسيلة للمجد والترقي. وهكذا سيّج قبول وتنفيذ هذه المراسيم والتنظيمات لسنة 1543، الاصلاحات الكنسية والقانونية-السياسية والمؤسسية.
أصبحت جنيف، في 1526، جمهورية ذات سيادة. بعد مرور عشر سنوات، اكتمل التحرير السياسي للمدينة في الوقت الذي حصل فيه تغيير عقائدي الذي التزم به مجموع السكان[4]. أكدت القطيعة مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الحكم الذاتي السياسي المكتسب إزاء الأمير-الاسقف. إن ممارسة الحقوق السيادية، بمعنى سك النقد وتجنيد الجيش وتحصيل الضرائب وبالأخص تحقيق العدل، تمثل امتيازات الحاكم وتشغل حيزا في تضارب السلطات التي تجري بجنيف. في نفس الوقت، نتجت التغييرات المؤسسية عن التحرير السياسي والتغيير العقائدي الكل ساهم في توطيدهم. تمّ الحفاظ على الحقوق السيادية بينما تغيرت المؤسسات التي تطبقها. لكن في النهاية، ما هي سعة هذه التغييرات ؟ إذا كانت التصدعات موجودة، فالاستمرارية في شتى المجالات ولا تزال قائمة وبكثرة. هكذا بقى المجلس الصغير والمجلس العام على نفس الوضع منذ العصر الوسيط في حين سمح بإنشاء مجلس المائتين في 1526، لأنصار الاستقلال أن يتجنبوا خصومهم الذين لهم مقاعد في المجلس الصغير. أما فيما يخص إنشاء محكمة ملازم العدل في سنة 1529 ومحكمة كنسية النائب العام في 1534، استجابت قبل كل شيء إلى الحاجة لتعويض المؤسسات والأشخاص الذي كانوا ينتمون سابقا لحاشية الأسقف. استعادت السلطات الجديدة تملّك المؤسسات. صاغتها حسب حاجياتها مع الحفاظ على البنيات القديمة للسلطة.
قاد الانخراط في الاصلاح في سنة 1536 إلى خلق مؤسسات جديدة، مثل المجمع الكنسي الذي بنى عليه كالفن نموذجه "المجتمع الكنسي" كما تعرّفه المراسيم الكنسية. إن الأسباب إيديولوجية، لكنها عملية واقتصادية أيضا. في الواقع، أدى رحيل مجموعة من رجال الدين وحاشية الأسقف إلى التخلي عن الممتلكات والمناصب الكنسية. لذا يلاحظ نقل بعض الأنشطة كمساعدة الفقراء والمرضى إلى البنيات المؤسسية التي تسيطر عليها المدينة. هكذا فإن الكثير من هذه المؤسسات الجديدة تمثل بنيات بديلة فضلا عن الابتكار. إن تاريخ جنيف شاهد على تأثيرات متبادلة بين اعتناق سكان المدينة دين جديد والاستقلال السياسي : عملية مزدوجة تجلت عبر مؤسسات جديدة. تمثل جنيف، في تاريخ أوروبا، نموذجا يؤكد سيادة جديدة وتكيف مؤسّسي مع لتغيير عقائدي.