سیرة شھادة بولیكارب

یا أخوة، من أجلكم نكتب أعمال الشھداء والطوباوي بولیكارب، حیث ان العذاب كان خاتمة اضطھاده. تقریباً في كل الأحداث
التي سبقت موتھ، یبینّ لنا الرب كیف أن شھادة بولیكارب كانت إنجیلیة بكاملھا. لقد انتظر بولیكارب لكي یتمّ تسلیمھ، كما حصل
مع الربّ، وذلك من أجل ان یسیر على مثال یسوع. نحن ننظر أكثر إلى مصلحتنا منھ إلى مصلحة القریب. عندما یكون الحب
حقیقیاً وقویاً، فھو لا یسعى لكي یخلص لوحده، بل یسعى لكي یخلصّ أیضًا إخوتھ. ساھرون وطوباویون، ھم كل الشھداء الذي
یمجدون لله! لیكن لنا إیماناً كافیاً من أجل ان ننسب إلى لله ھذه الحریة وسط ھذا الكمّ من التجارب. من یمكنھم إلا ان یعجب
بشجاعة ھؤلاء الرجال، وبصبرھم، وبالحب الذي حملوه لسیدھم؟ ضربوا بالسیوط، التي أذت مفاصلھم وعروقھم، لم یتذمروا،
في حین أن المساعدین لم یستطیعوا كبت صراخات آلامھم وطلب الرحمة. لكن عندھم، لم نسمع لا عنان ولا تأفف، وھذا یشیر
إلى أن ھؤلاء الشھود للمسیح كانوا قد تركوا أجسادھم، او ان السید كان ھنا وكان ھو یھتم بھم.
مسرورون بنعمة المسیح، لم یكن لھم إلا كل ازدراء للعذابات التي أصابتھم، لأن ساعة عذاب واحدة ستجعلھم یربحون الحیاة
الأبدیة. إن نار جزاریھم اللاإنسانیین تبدو لھم باردة. كان ھناك نارًا أخرى تقلقھم، یریدون الھروب منھا، إنھا النار الأبدیة، وھي
التي مقدر لھا ان لا تنطفئ أبدًا. كانوا یرون بعیون الأطفال المحاسن التي سیعطیھم إیاھا لله مقابل شجاعتھم، ما لم تسمعھ أذن،
9). غیر أن السیدّ سیكتشفھم ذلك أنھم لم یعودوا بشرًا بل باتوا ملائكة. ، وما لم تراه عین (كورنتث الأولى، 2
ھؤلاء الذین أدینوا لیموتوا امام الوحوش تحملوا أیضًا عذابات شدیدة: كان یتم تمدیدھم على أحجار مروّسة، وتعریضھم لتعذیب
شدید، متاملین أن تؤدي إجراءات التعذیب المختلفة والطویلة بأن یتخلى ھؤلاء عن إیمانھم.
كان الشیطان یستعمل ضدھم كل انواع الحیلة. لكن بنعمة الرب لم یستطع أن یغلب أحدًا منھم. بولیكارب، الأكثر إثارة للإعجاب
من بینھم، لم یجعل نفسھ تتأثر بشائعات الاضطھادات. كان یرید البقاء في المدنیة. لكن بما ان محیطھ كان یضغط علیھ من أجل
الاختباء، نجح في الوصول إلى منزل صغیر لیس بعیدًا من مدینة سمیرن وھناك مكث مع اصدقائھ، یمارسون الصلاة لیل نھار
من أجل كل الناس وكل كنائس العالم بحسب العرف.
خلال صلاتھ، وقبل ثلاثة أیام من توقیفھ، رأى رؤیة: اشتعلت مخدتھ بالكامل. فقام بالاستدارة باتجاه رفاقھ قائ لا: “یجب أن یتم
حرقي وأنا حیًا”.
كان یتم التفتیش على بولیكارب بشكل حثیث. وھو نجح في الوصول إلى مخبئ ثان: ولم یكد یصل إلى ھذا البیت حتى انطلق
الناس في إثره. وعندما لم یجدوه في المنزل الأول، قاموا باعتقال شابین عبدین، وعذبوھما، وعلى أثر التعذیب قام أحدھما
بالكلام. عندھا لم یعد باستطاعة بولیكارب ان یختبئ، ذلك أنھ تم كشفھ من قبل أحد التابعین لھ. تم اقتیاده إلى الحلبة، وبھذا أكمل
بولیكارب مصیره، بأن یصبح واحدًا في المسیح، في حین أن الذین سلموه سیعانون من عذاب یھوذا.
قاموا بأخذ العبد الشاب. كان یوم جمعة، حوالي ساعة العشاء. الجنود على الأحصنة وعلى أرجلھم مسلحین حتى أسنانھم، قاموا
بملاحقتھ، كما لو انھم یلاحقون قاطع طریق. وجدوا المنزل حیث یتواجد بولیكارب في وقت متأخر، كان ھو ینام في الطابق
العلوي. مرة أخرى استطاع النفاذ من بین أیدیھم. لكنھ رفض إلا ان تنفذ إرادة لله كما قال.
عندما علم أنھم ھنا، نزل وقام بمحاورتھم. صدموا ھم بعمره ونضجھ، وھم لم یستوعبوا كیف انھ تمّ وضع كل ھذا العدد من
الجنود من اجل ملاحقة رجلًا عجوزًا ونبیلًا كھذا. لكنھ، ورغم الوقت المتأخر، دعاھم للجلوس ومشاركتھ الطعام والشراب،
وطلب منھم أن یتركوه ساعة من أجل ان یصلي بسلام. وقد أعطوه ھذا الوقت. وعلیھ، قام بالصلاة واقفاً، وكان ممتلئاً من نعمة
لله بشكل أنھ استمر بالصلاة والكلام لفترة ساعتین والتأثیر في الناس الذین یسمعونھ. العدید منھم تابوا لأنھم أتوا وراء عجوزًا
بھذا القدیس.
عندما أنھى صلاتھ، حیث ذكر كل اللذین التقاھم في حیاتھ، صغارًا أو كبارًا، المشھور منھم والمتواضع، وكل الكنیسة
الكاثولیكیة، المنتشرة في العالم اجمع. كانت ساعة الانطلاق قد دقت. تم ربطھ على حمار وسوقھ إلى المدینة: كان یوم السبت
الكبیر. ھیرودوس، ووالده نیساتس، أتیا إلى امامھ وأصعداه في عربتھما. وھما إلى جانبھ حاولا أن یقنعاه بالرجوع عن رأیھ:
“أي سوء یمكن ان یقال سید قیصر، وان یتم التضحیة ورؤیة دیننا من أجل إنقاذ حیاتنا؟”.
لكنھ لم یرد علیھما بدایة، وكما ولو أنھ یشدد على فكرتھ قال لھما: لن أتبع نصائحكما”. بعد أن أذلا بخیبتھما، قاما بلقاء الشتائم
علیھ ودفعاه بقوة من عربتھما بشكل أنھ كسر رجلھ وھو ینزل منھا. ولكنھ لم یبدو مضطرباً، ومشي بإصرار كما ولو انھ لا
یشعر بشيء من الألم باتجاه الاستاد الذي سیتم فیھ إعدامھ.
خرجت من الاستا د إشاعة ضخم ة ول م یستطع أحدًا أن یتلافاھا. عندما وصل بولیكارب إلى أبواب الإستاد، خرج صوتاً من
السماء: “كن شجاعًا یا بولیكارب، كن رجلًا “. لم یعرف احدًا من الذي تكلمّ، ولكن أحباءنا الذین كانوا متواجدین في الإستاد
سمعوا ھذا الصوت. عندما علمت الجموع ان بولیكارب تمّ توقیفھ، تضاعفت المطالبات. عرض بولیكارب أمام القنصل وسألھ
إن ھو الرجل المقصود. فأجاب بولیكارب “أجل”. عندھا حاول القنصل دفعھ إلى التخلي عن إیمانھ: “إحترم عمرك” قال لھ. تبع
ذلك كل العبارات التي یمكن ان نسمعھا في وضع مشابھ: “أحلف بإسم قیصر، تراجع، أصرخ: الموت للكفار”.
عندھا نظر بولیكارب بحزن على جموع الوثنیین المتواجدین في الاستاد، ووجھ یده إلیھم. ثم أخذ نفسًا، ورفع عیونھ إلى السماء.
وقال: “فلیسقط الوثنیون”. فقال القنصل بالضغط علیھ: “أحلف بقیصر وأعدك بأن أحررك، إلعن المسیح”. فأجاب بولیكارب:
“إذا كانت تتخایل أنني سأحلف بإسم قیصر، كما تقول، وأن انكر ما أنا، إسمع إذًا لمرة ما لدي: أنا مسیحي. فھا إني أخدم المسیح
منذ ست وثمانین عامًا ولم أرى منھ أي سوء. كیف لي ان أشتم ملكي ومخلصي؟ إذا كانت المسیحیة تثیر اھتمامك، إعطي نفسك
یومًا من أجل ان تسمعني. فأجاب القنصل: “حاول أن تقنع الشعب”. لكن بولیكارب أجاب: “معك أحب أن أشرح نفسي. لله طلب
منا أن نحترم السلطة والوظائف العلیا التي ھو أقامھا، طالما أن ھذه الأخیرة لا تؤذینا. لكن ھؤلاء الناس لدیھم القلیل من الكرامة
لكي احاول أن ادافع عن إیماني أمامھم”.
فأجاب القنصل: “لدي حیوانات مفترسة، سأرمیك إلیھا غن لم تغیرّ رأیك”. دعھم یأتون، أجاب بولیكارب. عندما نحن نغیرّ، لا
نذھب من الحسن إلى الجیدّ. بل نذھب إلى مصیر أفضل. ھنا انزعج المسؤول: “سأبعث بك إلى عامود الحرق إن كنت لا تخاف
الحیوانات المفترسة. أنت كافر إذًا” أجاب بولیكارب: “أنت تھددني بنار ستحرقني لساعة، ولكنھا سنتطفئ بسرعة. لكنك تجھل
نار الحكم الآتي والقصاص الأبدي الذي سیصاب بھ الكفار. لماذا تتأخر إذًا؟ إذھب، وأعطي اوامرك”.
ھذه كانت عبارات بولیكارب. كان یشع شجاعة وسعادة. وكانت النعمة تغمر وجھھ. لم یجعل من نفسھ ضعیفاً في ھذه المواجھة،
لا بل بالعكس كان القنصل ھو من یقع في حالة من الھلع.
لكن ھذا الأخیر قام ببعث الناطق بإسمھ إلى وسط الاستاد لیعلن مات ثلاثة: “بولیكارب اعترف أنھ مسیحي”. ھذا الإعلان جعل
جموع الیھود والوثنیین الساكنین في سمیرن یدخلون في حالة من الھیجان. وانطلقت الصراخات: “إنھ ھو، معلم آسیا، أب
المسیحیین، المجدف على آلھتنا، إنھ ھو الذي یدعو الجموع لعدم تقدیس الآلھة وعدم عبادتھا”.
وسط ھذا الصراخ، طلبت الجموع من فیلیب لیفلت أسدًا على بولیكارب. لكنھ قال أنھ لا یحق لھ ذلك، لأن صراع الحیوانات
المفترسة قد انتھى. وإذ بھم بصوت واحد یطالبون بأن یتم حرق بولیكارب. كان ھنا لا بدّ أن تتحقق الرؤیة التي رآھا بولیكارب
حول مخدتھ المشتعلة. وفي الوقت الذي كان یصلي فیھ كان یقول انھ “لا بدّ ان اموت حرقًا”.
تدافعت الأحداث. فما كان من الجموع إلا ان اندفعت من أجل التفتیش عن حطب وتحضیر عملیة الحرق. عندھا قام الشھید بنزع
ثیابھ بنفسھ، وحذاءه، الأمر الذي أثار انتباه المؤمنین: وفي ھذا الجوّ من الحماسة الدینیة توافد حولھ العدید من المؤمنین الذین
یریدون لمس جسده ومساعدتھ. حتى قبل شھادتھ، إن قداسة سلوكھ كانت موضوع إلھام.
سرعان ما وضع حولھ الأشیاء من أجل عملیة الحرق. ولكن حین أرادت الجموع صلبھ على العامود: “أتركوني كما انا، قال
لھم، فمن أعطاني القوة لمواجھة ھذه الشعلات، سیعطیني القدرة على تحملھا من دون ان تمسمروني وتثبتوني على العامود”. فلم
یمسمروه واكتفوا بربطھ فقط. كانت یداه خلف ظھره، كانت یشبھ كبشًا رائعًا مأخوذًا من قطیع كبیر من اجل تقدمة ذاتھ في سبیل
لله. عندھا رفع عینیھ إلى السماء وقال: “سیدي، انت لله الكلي القدرة، أب یسوع المسیح، إبنك المبارك والحبیب، الذي علینا ان
نشكرك من أجلھ، انت رب الملائكة، والقوات، وكل الخلیقة وكل أھل الحق المعترفین بك والذین یعیشون تحت ناظرك، أباركك
لأنك حكمت انني اھل لھذا الیوم ولھذه الساعة، وأن أتحمل المشقات من أجل المسیح، ومن اجل القیامة وكسب الحیاة الأبدیة
لنفسي ولجسدي في اتحاد طاھر بالروح القدس. اقبلني من بین ھؤلاء الذین یعیشون في حضرتك الیوم: لتكن تضحیتي بھذه
الروعة في سبیلك، بما یتوافق مع المصیر الذي حددتھ لي والذي أتممھ. انت الذي لا تعرف الكذب، یا إلھ الحقیقة، أمدحك بكل
نعمك، وأباركك، وأمجدك بإسم الكاھن الأكبر الأبدي السماوي، یسوع المسیح، إبنك الحبیب، الذي من خلالھ كان لك المجد
وكذلك كان المجد للروح القدس، الیوم وفي كل یوم من الدھور القادمة. آمین”.
عندما لفظ لفظة “الآمین” ھذه، والتي ختم فیھا صلاتھ، قام الخدام بإشعال النار. فكانت شعلة كبیرة ارتفعت وكنا نحن شھودًا
لمشھد استثنائي لم یعطى إلا للذین تم اختیارھم لكي یتكلموا فیما بعد عن ھذا الحدث. أصبح شكل النار مستدیرًا. تشبھ عربة
منفوحة بالھواء، وكانت تحیط بشكل كامل بجسد الشھید. لم یعد الأمر كنایة عن جسد یحترق، بل عن رغیف یتم خبزه، كانت
الشھید كنایة عن ذھب وفضة، وكنا نشتمّ رائحة لذیذة وكأنھا عطرًا ثمیناً.
كان الرائع بولیكارب أحد ھؤلاء المختارین، سید زمنھ، رسولًا، نبیاً، وأسقف الكنیسة الكاثولیكیة لمدینة سمیرن. كل عبارة
خرجت من فمھ تمّ تاكیدھا وستتأكّد.
إن الشیطان، ھذا الغیور، عدو عرق الأبرار، عندما رأى كبر ھذه الشھادة، والسلوك النموذجي لھذا الشھید منذ طفولتھ، وكیف
وضع تاج الطھارة على جبینھ، والمنحة الكبیرة التي استحقھا، حاول أن یمنعنا من سحب جثة الشھید الذي كثیرون كانوا یریدون
لمسھا من أجل الحصول على بركة بولیكارب. فكان أن ھمس ھذا الشیطان لنیسیتاس، والد ھیرودوس وشقیق ألسي، لإقناع
الحاكم بأن لا یعید جسد بولیكارب إلى أحبائھ. لأنھ قال لنفسھ، سوف ینسون المصلوب من اجل عبادة شھیدھم الجدید. كان الیھود
یزكون ھذه الخطابات. وقد لحقوا بنا عندما حاولنا سحب الجثة عن عامود الحرق. لم یكونوا یعرفون أنھ یستحیل علینا أن نتخلى
عن المسیح الذي تعذّب من أجل خلاص العالم أجمع، والذي قدّم براءتھ من أجل خطایانا. نحن لن یمكن أن نعبد أي أحد آخر.
نحن نكرّم المسیح لأنھ إبن لله، ونحن نحب الشھداء لأنھم تلامیذ وأتباع السید. غن تقواھم لا یمكن مقارنتھا بملكھم ومعلمھم.
وكیف نكون بھذه الحالة صحابتھم وتلامیذھم؟
عندما رأى الجدال الذي أطلقھ الیھود، قام قائد المئة بعرض الجسد وسط الساحة، كما ھي العادة وقام بحرقھ. لھذا عُدنا فیما بعد
من اجل جمع الرماد التي كانت شدیدة الأھمیة بالنسبة لنا، والتي كانت أكثر قیمة عندنا من قیمة الذھب. وضعناھا في مكان من
اختیارنا. وھنا اعطانا السید، بقدر ما نستطیع، القدرة على الاجتماع في فرح الإیمان والاحتفال، بمناسبة ھذه الشھادة ومن أجل
ان نتذكر الذي قاموا بالنضال قبلھ من أجل الإیمان، ومن اجل أن ندعم ونقوي ھؤلاء الذین سیشھدوا لللإیمان فیما بعد.
ھذه ھي قصة الطوباوي بولیكارب. كان الثاني عشر من بین اخوتنا في فیلادیلفیا الذین تعذبوا في سمیرن. إن ذكراه تبقى حیة
كما ذكرى الآخرین، وھو الوحید الذي كان الوثنیون یمدحونھ في كل الامكنة. كان معلمًا صاحب مكانة، وشھیدًا خارجًا عن
المألوف، بحیث أن الكثیرون كانوا یتمنون أن یحذوا حذوه، وكان شدید الامانة لإنجیل السمیح. إن شجاعتھ كانت مصدر سلطة
إیمانیة مھمة، وھو استحق تاج الطھارة. ھو الآن یتشارك فرحة الرسل وكل أھل الحق، وھو یمجّد لله، الآب الكلي القدرة،
والمبارك سیدنا یسوع المسیح، مخلص حیاتنا وموجّھ أجسادنا، وھو كاھن الكنیسة الكاثولیكیة المنتشرة في كل العالم.
أنتم تاملون الحصول على تقریر مفصل لھذه الاحداث. نحن اكتفینا ھنا بسیرة ملخصة كتبھا أخونا مارسیون. عندما تقرأون ھذه
الرسالة، أنقلوھا إلى كل أقاربكم وأشقاءكم، حتى یقوموا بتمجید السید، الذي یقوم باختیار خدامھ (…)