تصوير الكائنات الحيَّة والآلهة

التصوير التعبيري في المغرب المجاور للصحراء الغربيَّة بعد القرن السادس عشر

يُصبح تاريخ الكسور [جمع كسار وهو المكان المحصَّن في إفريقيا الشماليَّة] المُحصَّنة أكثر وضوحًا ابتداءًا من القرن السادس عشر حيث يصبح بإمكان المؤرّخين التوليف بين المصادر الأثريَّة وتلك الأدبيَّة. فكسار أبوام، مثلًا، يَمتدُّ بشكل طوالي على هضبة، وهو لا يبتعد عن بقايا مدينة سيجيلماسا إلَّا مسافة كيلومتر واحد. وهذا الكسار أخذ مكان المدينة القديمة، الأمر الذي سمح له بالمحافظة لقرون عديدة على نشاطات السكان التجاريَّة في المنطقة. تتميَّز الكسور الأكثر أهميَّة بأبراجها المزيَّنة، وذلك لتجسيد الانتماء العائلي للمحتلّ، وهم غالبًا أبناء السلاطين، الذين كانوا يمثّلون بشكل مباشر السلطة المركزيَّة. هذا هو حال كسار معركة الرتاب، الذي بُني بأمر من مولاي إسماعيل[1] بداية القرن الثاني عشر.

الكسار مُحاط بسور للحماية. ولا يحتوي إلَّا على باب دخول واحد فقط بهدف السيطرة على حركة مرور الناس، خاصَّة الغرباء من بينهم، الذين كانوا يُجبَرون على تسليم سلاحهم عند الدخول. كلُّ كسار يُشكّل وسطًا ذا حكم ذاتي، وذلك على الرغم من ارتباطه بسيستام قبلي مرتبط بدوره بالقوى الموحّدة في المنطقة. في هذه المرحلة، كانت الكسور تنتظم حوالي الجامع الذي كان يبدو، بمركزيَّته وحجمه، أنَّه الآمر في كل هذا التنظيم المُدُني. المئذنة هنا هي العنصر الظاهر الذي يدلُّ على موقع الجامع. نجد الصبغة الرومانيَّة القديمة في أنماط بناء البيوت، المصنوعة من الطين الفخاري والحجارة الصغيرة مع فناء وأدراج. وهي غالبًا ما تكون مزيَّنة بإفريزات هندسيَّة كبيرة الحجم، يخرج منها أشكال مثل: النقاط، الشبكات، الصلبان، الانحناءات، التعرُّجات، السلاسل، المعيَّن الزوايا، المربَّعات. إنَّ تتابع الشرائط المتوازية هي القاعدة العامَّة في هذه الإفريزات. هذا الفنُّ التجريديّ، بحسب بوسكيه، هو خاصٌّ بالبربر. أمَّا فيما خصَّ الموروث المسيحي، فلم يبقَ منه شيء في هذه الفترة، ما عدا بعض الكلمات المستعملة في التقويم الشرقي، وبعض المظاهر المسيحيَّة من مثل الكرنفال.

إنَّ الديانة المُسلمة تُنظّم إذًا كلَّ أوجه الحياة اليوميَّة، ما عدا تلك المتعلّقة بالسكان اليهود. وكان الأشراف [الشرفاء/شورفا][2] ، الذين يُرجعون أصولهم إلى سلالة نبي الإسلام، يحظون باحترام كبير. وكونهم يتمتَّعون بهالة مقدَّسة [متأتيَّة من كونهم أحفاد محمد] كانوا يبتعدون عن المهن التي تتطلَّب حَمْل السلاح، وكانوا يميلون أكثر إلى لعب دور الحكم (أو المُصلح) في الخلافات التي كانت تحصل بين الأشخاص أو حتَّى بين الجماعات. العديد من البلدات أو الكسور تمَّ تأسيسها على يد مرابطين الذين قاموا بتأسيس زواياهم[3] . وكان السكَّان يشيدون بمؤهّلات الوالي[4] ، الذي كان ينحدر من سلالة محمد، والذي كان هو الضامن لديمومة وجود المياه، وحامي الكسار، والإنسان-الطبيب الذي يضمن صحَّة الناس وخصوبة النساء. ولهذا، كان هؤلاء السكان يقدمون له جزءًا من محاصيلهم الزراعيَّة. وكانت هذه العقائد مُتجذّرة بقوَّة في مجتمعات الواحات. وقد أخذت العديد من ينابيع المنطقة إسم قديس، إذْ كانت القبائل تذهب إلى الزاوية وتطلب شفاعة وبركة المرابط عند ندرة تساقط الأمطار وجفاف جداول المياه. وعند موت المرابط، كان يتحوّل قبره إلى مكان للحجّ. وكانت المواسم[5] السنويَّة تجذب الآلاف من الأتباع والحجَّاج الذين كانوا يبحثون عن البركة. إنَّ التيارات الصوفيَّة والأكثر أهميَّة ممثَّلة كلَّها في هذه المنطقة.

إنَّ الهندسة الدينيَّة في هذه الأنحاء هي كثيرة التنوُّع وتتمايز بخطوط محليَّة تسمح ببلورة نمط خاص : [نجد هذا في أشكال] المنبر وملحقاته، ومساكن الطلاب المبنيَّة حول باحة الزاوية، وصالة استقبال الضيوف. يوجد إلى جانب الزاوية الغرفة المدفنيَّة حيث ترقد جثَّة القديس المؤسّس، بما يحوّل الزاوية إلى مُجمَّع ديني ومدفني تتواصل من خلاله خصائص الهندسة التقليديَّة الإسلاميَّة القديمة في المغرب. إنَّ العنصر الأهمّ في هذا المُجمَّع من حيث الهندسة والتزيين هي القبَّة التي تأخذ، في غالب الأحيان، شكل قلنسوة نصف دائريَّة بأشكال مختلفة، غالبًا مع فتحات هرميَّة الشكل مُغطّاة بقطعة قرميد أو بلاطة موضوعة في أطر تقليديَّة مصنوعة بحسب النمط المحلي. إذا نظرنا إليها من الداخل، ترتكز هذه القبب على نوع من الاعمدة تُزيّنها رسومات جصيَّة أو جيريَّة مُنعَّمَة، وهي تصوّر أشكالًا هندسيًّة متشابكة أو ورديَّة. وهناك غرفة مُخصَّصَة للثياب والأشياء الخاصَّة بالقدّيس: كالبرنس، والصندل ومخطوطات الزواية (وهي تحتوي على الرسائل المتعلّقة بأعضاء الزاوية، وأشجار الأنساب، ومراسيم ملكيَّة). هذه الأرض نفسها تستقبل أيضًا مدافن المرابطين اليهود الذين تعود أسماؤهم إلى أنبياء العهد القديم، مثل سيدي شاناويل (صموئيل)، وسيدي دانيال، وسيدي حزقيل [حزقيال]. ويبدو الشكل السداسي عنصرًا ثابتًا في الإيقونوغرافيا الخاصَّة بهذه المنطقة، وبهندستها، وبصناعة النقد والأختام الخاصَّة بالسلالة العلويَّة المغربيَّة حتى أوساط القرن العشرين. كما أنَّ النجمة السداسيَّة الأضلع المُتَرَافقة مع الهلال تتواجد أيضًا في الأشكال الهندسيَّة التي تُزيّن القصبات جنوبي المغرب.

إنَّ الأغادير أو الصوامع الجماعيَّة موجودة في مناطق أخرى في الشمال الإفريقي، غير أنَّه يُشار لها بتسميات أخرى كما هو الحال في تونس الوسطى، أو في نفوسة في طرابلس الغربيَّة (كسار أو تملدت)، أو في أورس (كيللا)، أو في الأطلس العلوي (أغرم). وهي تشكّل نمطًا مميَّزًا من التراث الهندسي في المغرب المجاور للصحراء الغربيَّة. ويُحيط بالأغادير، المعروفة تقليديًّا على أنَّها أماكن مُقدَّسة، العديد من المُمارسات التي تُعظّم من شأن العناية الإلهيَّة، أي البركة. فالعديد من الأواني التي تُستعمل داخل الصومعة – مثل الجرار وأعمدة الأضاحي والمناور وحصَّالات النقود – ترتبط بقدّيسين محليّين أو إقليميّين. إلى هؤلاء تُقدَّم بشكل يومي هبات مُحدَّدة. وتقوم القبائل بتأمين الحماية الروحيَّة لمؤسَّساتها الطائفيَّة من خلال تقديس الزوايا والمرابطون والأماكن والشخصيَّات. فبسبب بركة هؤلاء الأشخاص، يأخذ التراث الهندسي هذا الطابع-الحُرم حيث لا يمكن القيام بأي فعل سيء أو مشين. إنَّ هذا المنع الأخلاقي يؤمّن لهذه المؤسَّسات ليس فقط عدم المسام برمزيَّتها القدسيَّة، بل احترام الجميع أيضًا. بالمقابل، كلُّ أغادير يملك صندوقًا مخصَّصًا للقدّيسين حيث تقوم القبائل بوضع هباتها المقدَّمة للقدّيس المؤسّس للزاوية بعد عمليَّة الحصاد. هذه الشخصيَّات الحامية هي كمينة بإعادة إحياء هذه البَرَكة الخيّرة للموسم الزراعي وهي التي تلعب دور الملجأ في وجه المخاطر الوجوديَّة المحيطة بالإنسان. إنَّ الصومعة والزاوية هما تسميتان للتعبير عن سيستام متكامل وحيوي لهذه الطوائف.

  1. مولاي إسماعيل

    هو سلطان علوي حكم المغرب ما بين 1657 و1727

  2. الأشراف [الشرفاء/شورفا]

    تعبير يراد به الإشارة إلى من يدعى انه ينحدر من سلالة محمد. وهم أشخاص مكرَّمون جدًا في المغرب

  3. الزاوية

    الزاوية تعبير يراد به القرنة. غير انه أخذ معنى أوسع يشمل البعد الديني التعليمي وحتى السياسي. وقد تحولت الزاوية إلى مكان متعدد الوظائف بسبب تأثيره في التغير المجتمعي الذي حصل بداية القرن السادس عشر.

  4. الوالي

    هو رجل تقي. وقد تسمى بالوالي كل الابنية والأمكان التي تحيط بمسكن ومصلى هذا الرجل الي يُعتبر قديسًا. والأبنية هي كناية عن مساكن الطلاب الآتين للتعلم منه وللاستفادة من هالته التبريكية، وأبنية أخرى لاستقبال المسافرين والمتسولين الذي كانوا يجدون بحمايته الملجأ والمسكن.

  5. المواسم

    إنه الأعياد المكرسة لتعظيم وتكريم نبي الإسلام. وهذه الاعياد تأخذ شكل الحج الذي يجمع سكان الكسور. إنه وقت مقدس يتحرك فيه الناس للاحتفال بنوع من "ذكرى جماعية"، يتمّ فيه إعادة تذكر البدايات الأولى لهذه المجموعات البشرية المنظمة حوالي القديسين المؤسسين.

سابقسابقمواليموالي
استقبالاستقبالاطبعاطبع محمد أحدى، جامعة أغادير المغرب إسناد - غير تجاري - غير قابل للتغييرتم إنجازه بواسطة سيناري (نافذة جديدة)