السياسة والدين وبناء الدولة (القرن11 -16 / 19)

مكانة الدين في تأسيس الدولة

إن توظيف الفلسفة الأرسطية، في قشتالة، لتعريف السلطة الملكية، عزز طبيعتها الدنوية. لم يعد يعرف اعتلاء الملك العرش أي طقس طيني معين، وقد تمّ التخلي طوعا عن التتويج في منتصف القرن الثاني عشر. الحاكم الجديد يكتفي بتزكية الشعب. في فرنسا، يعتبر فيليب لو بيل حطا كممهد للعلمنة الدولة. لقد قربه طقس التتويج في واقع الأمر من التمثيل المسيحي للملك القسيس.إن طقس الدهن جعل الحاكم خليفة الله ومنحه سلطة معجزة. وبعد إدخاله تحسينات على هذا الطقس ضمن استخدام هذا النوع من التصوف الملكي. إن تمثيل السوك soq الملكي وعباءة التقديس على خاتمه الكبير يذكّر بوظيفته الطقوسية. تتضمن هذه الفكرة عددا من أفعاله التي تدخل ضمن منطق الإصلاح الديني للمملكة، لاسيما طرد اليهود[1] سنة 1303 والهجوم المعلن ضد فرسان المعبد ابتداء من 1307. فإذا كانت هذة الكتابات تحاول المتييز بوضوح قدرات الكنيسة وقدرات الدولة الملكية، فإنما تقوم به لصدّ تطلعات تيوقراطية. (انظر الطبعة الفرنسية) لبونيفاس الثامن. أكد تقديس لويس التاسع والذي أصبح "القديس لويس[2]" أن فرنسا استعملت الدين لتعزيز سلطة ملكية ذات شرعية هشة أكثر منها في قشتالة.

L'archevêque de Reims oint le front du roi ; à gauche, l'archevêque présente l'épée royale ; à droite, le sénéchal tient cette épée. Maître de la Vie de Saint-Denis, Maître de Guignes © BnFمعلوماتمعلومات[3]

للحفاظ على خصوصية السلطة للحاكم، رفضت المدونة القانونية لألفونسو العاشر سلطة الإمبراطورية وسلطة البابا على المملكة. إن المشاريع التأريخية التي تمّ وضعها في الوقت نفسه طالبت بسلطة قشتالة على فضاءات أخرى. لقد خصته إسطوريا دي إسبانيا (قبل 1270) في البداية بدورا مهيمن في شبه الجزيرة الأيبيرية، مطورة فكرة إمبراطورية إسبانية. "جينيرال إيسطوريا[4]" (ابتداء من 1272 إلى 1275) جعلت الطموحات العالمية لملك قشتالة تشمل العالم كله بهدف لمنافسة الإمبراطورية الرومانية الجرمانية أو ابتلاعها. في فرنسا، تطور هذه الفكرة تزامن مع ملك فرنسا غير أنه يمثل "princeps " "الرجل الأول في مملكته"، حسب تعبير غليوم دوران (speculum judiciale, 1271-1272). إلا أن النظرية أصبحت أكثر راديكالية في عهد فيليب لو بيل، لقد حلت كلمة "إمبراطور" محل كلمة "princeps" خلال النزاع مع بونيفاس الثامن (Mémoire de G. Duran le Jeune, v.1303, et libelle Quaestio in utramque partem, 1302). إن أسطورة الأصول الطروادية للملكية الفرنسية تم تطويرها في نهاية القرن الثالث عشر في الحوليات الفرنسية الكبيرة () التي كتبها غليوم دي نانجيس[5] في سان دوني. سمحت بمطالبة الأولوية مقارنة بالكنيسة، وهكذا حالت دون الادعاءات الضريبية للبابوية (note du conseil royal, v.1296). وحده بيار دي بو[6]ا ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما أعلن عالمية سلطة فيليب لو بيل، والتي من المحتمل أن تكون أسسها دينية. لقد تصوره كقسطنطين[7] جديد يغزو القدس (De la récupération de la Terre Sainte, 1305-1307)، بل أكثر من ذلك كمرشح للإمبراطورية الرومانية الجرمانية (Pour le fait de la Terre Sainte, 1308)، ويؤكد تفوق أخلاق مملكة فرنسا على باق الدول المسيحية بما فيها الإمبراطورية.

السيادة الملكية ثابتة (لها حضور) داخل المملكتين. ففي قشتالة مثلا يتبنى الملك احتكار القانون والعدالة. إن علاقته بالوظيفة التشريعية وبإضافتها للحكمة بقياسها على نماذج الوصايا القديمة (Les modèles vétéro-tertamentaires[8]) جعلت ألفونسو العاشر يحمل لقب "الحكيم". إن الدور الحصري للحاكم في تحضير القوانين التي تبنتها عبر رسالة قانونية (L'Espéculo) (1255) تنشأ عنه قطيعة مع التمثلات السابقة التي كان يسهر على تطبيق القانون وإصلاحه إذا اقتضى الحال. تسمح له هذه الفكرة الجديدة بتبرير مجهوداته من أجل استعادة القانون وتحقيق وحدة قانونية للممالكه. بالرغم من أنها كانت أقل ابتكارا فإن النظريات الفرنسية في عهد فيليب لو بيل كانت تهدف في المقام الأول لإخضاع الولاية القضائية والكنائسية للمحاكم الملكية مما سبب نزاعا ثان مع بونيفاس الثامن. يتعلق الأمر، بعد لويس التاسع، بتعزيز العدالة التي يمارسها الملك. من بين (الرجاليا regalia[9]) ظهور "يد العدالة" التي هي بمثابة تطور لمصطلح قضيب حديدي (verge) التقليدي. طالب فيليب لو بيل علنا باستمرارية عمل من سبقوه وذلك وضع تماثيلهم في أكبر قاعة في القصر الملكي، حيث مقر محكمته.

Registre des ordonnances de l'hôtel du roi : miniature représentant saint Louis. Vers 1320. Anonyme . © RMN/ Agence Bullozمعلوماتمعلومات[10]

تخول النظريات السياسية القشتالية، من جهة أخرى، للسلطة الملكية سيادة طبيعية تفرض على الرعايا خضوعا كاملا تحت طائلة الموت أو فقدان البصر (Fuero Real). حتى مستشاريه لا يمكنهم انتقاد شخص الملك (Lubero de los Cien Cappitulos). تميز المدونات الألفونسية القانونية بين جريمة القدح في الذات الملكية، الموجهة لشخص الملك وبين الخيانة، بصفتها أكثر خطورة، والتي تهدف السلطة الملكية وعبرها الجماعة. يندرج تشويه صورة الملك في المجموعة الثانية. إن النصوص التي مازالت تشير إلى السلطة الملكية تحت مصطلح (real mayoria) "supériorité" (تفوق)، عرفت تطورا في المعنى إذ أصبح (real majestad) ("majesté" (جلالة)، مما أحدث هالة مميزة). إن فكرة تجسيد الملك للدولة تابعت طريقها، غير أن فليب لو بيل، اكتفى لاحقاً بتبنّي سلطة متزايدة دون صياغة النظرية بدقّة. وحدها (Coutumes du Beauvaisis) (فيليب دو بومانوار[11]) تشير إلى غياب حدود السلطة الملكية.

إن مفهوم المملكة، ككثلة سياسية المستوحى من المبشر بول (الذي يعتبر الكنيسة "جسد المسيح") وأريسطو (الذي يعتبر أن الدولة تستقي مصدرها من الإنسانية)، وضعه جان دو سالزبوري[12] في القرن الثاني عشر. سمحت قشتالة ألفونس الحكيم بشرعية تعزز السلطة الملكية. ملك هو "روح وأصل أو بداية الشعب" في "الجسد" المؤسس للملكة، مما يعني أنه سبقه في الوجود لأنه بمثابة الغاية (Espéculo, Fuero Real). وبهذا يعتبر وبكل بساطة رأسا لمملكة شبيهة بالجسد (Partidas). تهيمن فكرة المملكة-الأمّة على فكرة المملكة-الإقليم، في المفهوم الحديث المعلن لدولة-الأمة. إن مفهوم الدولة الملكية نفسه بصدد التكوين. يشير (Le Libro de los cien capitulos) إلى أن الملك والمملكة شخصان ولكن في شيء واحد. تحدد المواثيق أن المداخل "متعلقة بالمملكة"، وليس بالملك. ظهر مصطلح "التاج" في السنة الموالية لنهاية عهده، سنة 1828. استعملت الاستعارة الجسدية كمادة حكائية في فرنسا فليب لو بيل. إن اقتراح كتاب (Rex pacificus) رؤية المجتمع كجسد قلبه الملكية وروحة الكنيسة، بمثابة حجة وضعت للفصل بين السلطات. وضع رجال القانون، من جانبهم، نظرية ازدواجية جسم الملك، الأول يحمل الموت والثاني لا يدركه الموت أبدا، مميزين بذلك الملك كونه شخص حامل للتاج بكونه مؤسسة.

  1. طرد الیھود

    فیلیب لو بیل ھو ٔاول ملك طالب ب"ملكیة" یھود مملكته الشيء الذي تم بنجاح ضد النبلاء ومحاكم التفتیش ٕابان الفترة األولى من حكمه. تقدم بحجة "تطھیر" الدیني للمملكة بالنسبة لطرد سنة ١٣٠٣ الذي شمل عشرات اآلالف من األشخاص. اعتناق الدین یسمح بتجنب ھذا القرار. ویعني ھذا بالنسبة للملك تقویة سلطته ٔاكبر النبلاء وٕامداد خزائنه، لأن الطرد یرافقه مصادرة جمیع الممتلكات.

  2. القدیس لویس

    ٔاحد ملوك فرنسا من ١٢٢٦ ٕالى ١٢٧٠. عرف بمساھمته في تقویة الملكیة الفرنسیة، لاسیما عن طریق تنمیة العدالة الملكیة. في عھد حفیده فیلیب لو بیل سنة ١٢٩٧ طُوب ؤاصبح "القدیس لویس"، الشيء الذي جعله نموذجا لملوك فرنسا الذین ٔاتوا من بعده.

  3. L'archevêque de Reims oint le front du roi ; à gauche, l'archevêque présente l'épée royale ; à droite, le sénéchal tient cette épée. Maître de la Vie de Saint-Denis, Maître de Guignes. Partie de Ordo du sacre de 1250. Paris, 1250? BnF, département des Manuscrits à peinture, Latin 1246 f°17.

  4. جینیرال ٕایسطوریا

    مشروع تاریخي كبیر ٔاعطى انطلالته ٔالفونسو العاشر ما بین ١٢٧٢ و ١٢٧٥، ٕالا ٔان وفاة ٔالفونسو العاشر سنة ١٢٨٤، حالت دون اكتمال ھذا المشروع. ھذا التاریخ الكوني، منذ خلق العالم ٕالى الفترة المعاصرة، كانت وظیفته تبریر الادعاءات المھیمنة لقشتالة ٔالفونسو العاشر، وذلك عبر ٕاعادة تفسیر جمیع المصادر التاریخیة المعروفة )لاسیما الإنجیل، ومؤرخي العصور القدیمة(.

  5. غلیوم دي نانجیس

    راھب وحارس ٔارشیفات الدیر الملكي لسان دوني، القریب من باریس. توفي سنة ١٣٠٠، یعتبر ٔاول كاتب لحولیات فرنسا الكبرى، وھو الذي ٔاعطى االنطالقة للمدرسة التاریخیة الدیونیزیة. مع ھذه الوقائع رٔاى النور مفھوم التاریخ الرسمي للمملكة.

  6. بیار دي بوا

    رجل قانون فرنسي )حوالي ١٣٢٠ -١٢٥٥(. استقر في قضائیة كوطانج الإقلیمیة، حرر في عھد فیلیب لو بیل مؤلفات سیاسیة مختلفة ،(réf)

    والتي تھدف ٕالى التنظیر للتفوق السیاسي لملك فرنسا، لكنھا تذھب ٔابعد من ادعاءات الحاكم.

  7. قسطنطین

    قسطنطین الأول، ٕامبراطور روماني )٣٣٧-٣٠٦(، مؤسس القسطنطینیة. اعتنق المسیحیة، ٔاصدر لاسیما في ٣١٣ مرسوم میالنو، وھو مرسوما للتسامح الذي یضع حدا الضطھاد المسیحیین.

  8. نماذج الوصایا القدیمة

    ٔاسس الملك داود في العصر الوسیط نموذجا في الكتاب المقدس، ٔاي نموذج )ملك-قسیس( والذي غالبا ما كانت فرنسا تستحضره. وعلى العكس من ذلك فإن قشتالة تفضل ابنه وخلیفته سلیمان الموصوف ب"الحكیم" في الكتاب المقدس. فبالرغم من ٔان سلوكه في ٓاخر حیاته كان یشار ٕالیه بالزندقة والكفر، فإنه كان یمثل نموذج الملك المدیر والعادل والبنّاء.

  9. regalia الرجالیا

    مجموعة من ٔاشیاء رمزیة للملكة. استعمل ملك فرنسا عند تتوجه التاج والخاتم والسیف وال)soq( والعباءة الطقوسیة التي تجعل منه ملكا –قسیسا. ٕان تمثالت فلیب لو بیل، طوال حیاته وكذلك بعد مماته، تظھره وفي یده العصا التي ترمز ٕالى السلطة والحكم، القضیب الحدیدي )والید( یمثالن احتكاره للعدالة، ٔاو زھرة الزنبق التي تشیر الستمراریة ساللة الملكیة الفرنسیة ؤاقالیمھا.

  10. Registre des ordonnances de l'ôtel du roi : miniature représentant saint Louis. Vers 1320. Anonyme. Localisation : Paris, musée de l'histoire de France © RMN/ Agence Bulloz

  11. فيليب دو بومانوار

    ضابط ملكي، لقد قادته حیاته المھنیة لمزاولة مھام القضاء ٔاو وكیل األمیر الإقطاعي في دوائر مختلفة، في عھد سان لویس وفیلیب لوھاردي وفیلیب لو بیل، وھو كاتب لمجموعة قانونیة ھائلة)Les Coutumes du Beauvaisis( ٔاو )Clermont en Beauvaisis( سنة ١٢٨٣.

  12. جان دو سالزبوري

    فیلسوف ٕانجلیزي )حوالي ١١٨٠-١١١٥(. تلقى تكوینه بباریس، ٔاصبحا مستشار توامس بیكیت رئیس ٔاساقفة كانتربوري؛ عین ٔاسقف مدینة شارتر )١١٧٦(. یعد كتاب )Policratus( ٔاشھر كتبه والذي انتھى من كتابته في حوالي ١١٥٩، والذي عرف نجاحا كبیرا في العصر الوسیط، والذي خصص مكانة بارزة للتفكیر في الممارسات السیاسیة.

السابقالسابقالتالي التالي 
استقبالاستقبالطبع طبع  غزلان بوري, أستاذ و باحثة في جامعة لو مان في فرنسا إسناد - غير تجاري - غير قابل للتغيير تم إنجازه بسيناري Scenari (نافذة جديدة)