البصمة المهيمنة لقوانين الجمال اليونانيَّة-الرومانيَّة
إنَّ القيمة التوثيقيَّة لهذه الفسيفساءات مهمَّة جدًّا. فمضامينها تتشابك مع مضامين المصادر الأدبيَّة وتكمّلها. طبعًا، فالفنانون الذي يقومون بتلك الأعمال لا يبتغون تزويدنا بوقائع تاريخيَّة محدَّدة. فهم بالأساس يلبُّون طلب ورغبة بعض المالكين لإعطاء قيمة فنيَّة لتقديماتهم. وطلَّاب هذه الاعمال الفنيَّة يختارون الموضوع بحسب ذوقهم ومشاعرهم وعقائدهم. ويبدو أنَّ البصمة اليونانيَّة على النخب قويَّة جدّا، إذ أنَّ كلّ الأمكنة كان يجوبها تجَّار وفنَّانون وجنود وعبيد ومثقَّفون آتون من المُدُن اليونانيَّة.
لقد تمَّ إقامة مدينة قرطاجة على الحدود ما بين حوضَيْ المتوسّط. ذو شخصيَّة قويَّة مرتبطة بانتشارها الاقتصادي وقوَّتها العسكريَّة، تمّ كَسْر هذه المدينة على يد روما في العام 146 عند نهاية الحروب البونيَّة[1] . وقد تمّ إعادة تأسيس المدينة بحسب إرادة أوغسطس[2] في العام 29 قبل الميلاد على الموقع حيث ترتفع تلّة بيرسا. شيرشل هي أحد أهمّ المدن القديمة في المنطقة. إذْ بعد أنْ تأسَّست على يد القرطاجيّين في القرن الرابع قبل الميلاد، اتَّخذت إسم إيل، وهو إسم إله فينيقي. وقد أصبحت جزءًا من الإمبراطوريَّة النوميديَّة بعد سقوط جوغورثا[3] في العام 105 قبل الميلاد. وقد تمّ إعادة تأسيسها في العام 25 ميلادي على يد جوبا الثاني[4] ، الذي تلقَّى تربية رومانيَّة، وقد أطلق على المدينة إسم قيصريَّة على شرف الإمبراطور. وقد أصبحت عاصمة مريتانيا القيصريَّة مرفأ كبيرًا مؤسَّسة العديد من المحطّات امتدَّت حتَّى ساحل المحيط الاطلسي. مهندسون، وفسيفسائيون، ورسَّامون، ونحَّاتون، كانوا يأتون إليها لتلبية نداءات الملك الذي لعب دور الحاضن لهذه الحركة الفنيَّة. أودنا هو إسم المدينة البونيَّة أوثينا، وهذه أصبحت مستعمرة رومانيَّة تحت حكم الإمبراطور أوغسطس بحسب بلينوس القديم، وقد وصلت هذه المدينة إلى ذروة مجدها تحت حكم سلالة الأنطونيّين[5] والسيفيريّين[6] .
في القرن الثاني ميلادي، كانت المحترفات الإفريقيَّة تقلّد بشكل خاصّ النماذج الإيطاليَّة، هذه النماذج التي كانت متأثرة بدورها بالتقليد الهيللينستي الخاصّ بمدينة الإسكندريَّة. إنَّ فسيفساءات تلك المدرسة كانت تتميَّز بـ"زخرفة تُسمّى النمط الوردي المتعدّد الألوان". إنَّ الأعمدة الرومانيَّة وتلك الإفريقيَّة المتأثّرة بالنمط الروماني تبتغي إذًا تأبيد التقديمات والهبات لحساب الآلهة الأقرب منهم. وقد كانت أحد نتائج هذا التوجُّه، بحسب الاختصاصيّين، تهميش أو تجاهل الخطوط المميَّزة للفسيفسائيّين المحليّين الليبيّين والبونيّين. إنَّ الأمر يتعلَّق بفنّ مرخَّص به كان الفنَّانون نادرًا ما يتمكَّنون من الخروج منه، وخاصَّة من المخزون الميثولوجي الدارج آنذاك، والذي هو بغالبيَّته يوناني-روماني. غير أنَّه، وبدءًا من فترة السيفاريّين، نلاحظ بوضوح كيف أنَّ الموضوعات المأخوذة من الحياة اليوميَّة أكثر تأثرًا بالحركة الواقعيَّة على أرض إفريقيا: تجسيد لوحات للصيد مع ملامح خاصَّة بالاماكن المحليَّة، أعمال زراعيَّة، نشاطات تجاريَّة في المرافئ والأسواق الكبرى. إنَّ هذه التجسيدات التصويريَّة تستمرُّ في التعبير، هنا وهناك، عن الأشكال الطقسيَّة المُعتمدة مِن قبل مَن يطلب العمل الفني بما فيهم الأعمال المطلوبة من الملوك البرابرة أو بعل حامون[7] . تتميَّز هذه المرحلة بإعادة إنتاج لأعمال كانت تُصنع في أماكن أخرى مع بعض المميّزات الخاصَّة بها. ويبقى طائر الكركي المألوف، بحسب ما اكتشف علماء الآثار والمؤرّخون، التعبير النموذجي للتضحية الطقسيَّة التي لها علاقة بالإلهة ديان وشقيقها أبولون.