فرنسا: مرسوم التهدئة
إن الوضع في فرنسا مختلف. فالمملكة أكثر مركزية من أي مملكة أوروبية أخرى، وربما أكثر وعيا بوحدتها مما هي عليه الإمبراطورية الجرمانية. حصل الملك فرنسوا[1] الأول، بموجب معاهدة بولونيا البابوية[2] سنة 1516، على وسائل قوية للضغط على الكنيسة. لديه اليد العليا على 110 أسقف و4000 دير. كل حَبريّات المملكة بين يديه. وضع على رأسها الأشخاص الذين يقدر صفاتهم والذين يعزم على مكافأة خدماتهم. إنه إذاً سيد البنيات الكنسية بدون منازع، كما هو الشأن في بنيات المنظمة المدنية. تخدم الله وتخدم الملك، هذه القناعة تمّ تفعيلها في صيغة أصبحت عامة ووزعت على نطاق واسع:" عقيدة، قانون، ملك".
منذ سنوات 1525، انتشر الإصلاح القادم أولا من ألمانيا، ثم تحت تأثير جون كالفين (1509-1564)[4] (انظر الرابط) ، لاجئ بجنيف ومنظم، انطلاقا من هذه المدينة، للإصلاح في المملكة الفرنسية. بعد بضع سنوات من الشك، جربت السلطة سياسة القمع بالقوة. يعود هذا المنعطف إلى تاريخ 1543. خلّف القمع "شهداء "، كما عدد "أتباع العقيدة الجديدة" نموا مستمرا. وصل عددهم الذروة في حوالي سنة 1559، حيث تشير التقديرات أن الإصلاح ضمّ ما يقارب مليوني شخصا، أي ما يعادل حوالي 10 بالمائة من السكان. في نفس السنة، توفي الملك هنري الثاني(1519-1559)[5] بالصدفة في إحدى المباريات، وترك أربعة أولاد، أكبرهم فرنسوا الثاني، الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، كان تحت وصاية والدته كاترين دو ميديسيس (1519-1589)[6]، التي لم تتأخر في تولي السلطة. بعدما عاينت فشل تدابير القوة، ثبتت نفسها بهدف الحفاظ على التوازن بين مختلف الأطراف، وذلك لإنقاذ مملكة أبنائها فقط. حاولت في البداية اللجوء إلى التوفيق، كما حصل في ألمانيا. ساعدها في ذلك حزب المعتدلين، الذي ينعت أعضاءه ب" Moyenneurs" أي "الوسطاء"، وفقا لتعبير كالفين، الذي أظهر ريبته اتجاههم. نُظم مجلس وطني، سمي "المؤتمر" مراعاةً لروما. اصطدم "الوسطاء" moyenneurs بمتطرفين : المتطرفين الكالفينيين ومتطرفي الغالبية الكاثوليكية. فشل المؤتمر أدى، كما هو الحال في ألمانيا، إلى الحل العسكري.
اجتاحت فرنسا، منذ ذلك الحين، ثمانية حروب متتالية (انظر الرابط)، خلال أكثر من ثلاثين سنة. دون أن يتمكن أي من الطرفين من فوز حقيقي. على عكس ما حدت في ألمانيا، لم يتواجه خلال هذه الحروب الحكام الكاثوليك والحكام البرتستانت، لكنها حروب أهلية حقيقية، فلقد اجتاح الشرخ الديني كل الأوساط الاجتماعية. تبيّن أنها غير مجدية : تعاقبت فترات العنف، ثم فترات الهدنة، في غالب الأحيان عن طريق استنفاذ عام للمحاربين. يتمّ تقريرها بمراسيم "سلام"، زائلة. إنها تدمر أسس الحياة الاجتماعية، وترمي سكان نفس المدينة، وأفراد نفس العائلة، بعضهم ضد البعض. ناهيك عن آثارها الإنسانية والاقتصادية، كما أنها تخرب المشاعر الدينية تماما، وتهدد بتغلب الإلحاد وانتشاره، حسب التخوف الذي عبر عنه اللاهوتي البروتستانتي ثيودور دو بيزThéodore de Bèze. علاوة على ذلك، فإنها تقوض سلطة الدولة. على سبيل المثال، أصبح تطبيق العدالة شبه مستحيل. لم يتمكن أحد من الأحزاب الثلاثة المعنية من الانتصار، لا حزب الكاثوليك المتطرفين، ولا حزب البرتستانت، ولا حزب الكاثوليك المعتدلين ما يسمى ب"السياسيين". يعود فرض حل للمشكل الذي طرحه الإصلاح إلى هنري الرابع (1553-1610)[8]، الذي وقع في الخفاء، في شهر أبريل 1598، مرسوم نانت (انظر الرابط)، الذي وضع حدا لحروب الدين في مملكة فرنسا. ما هي بإيجاز خلاصات، وبنود هذا المرسوم؟ أصبح البروتستانت يعتبرون ك"جسد" في الدولة التي تحتوي على العديد من (النبلاء، الإكليروس، ممثلي الأقاليم، الهيئات، إلخ...). استفادوا على هذا النحو، تحت سلطة الملك ووفقا لرضاه :
• من مساواة مدنية مع الكاثوليك : يمكنهم البيع، الشراء، الزواج، الاختبار، دفع الضرائب.
• من مساواة في الشأن التربوي والمساعدة العامة، والوصول إلى جميع المراتب.
• من حرية ضمير شاملة (على الرغم من أن العبارة لم تستخدم).
• من حرية العبادة، محدودة لكن حقيقية.
• من قدرة المقاومة العسكرية التي يمنحها توفير أماكن آمنة.
السلطة الملكية في فرنسا، مثل السلطة الإمبراطورية في هابسبورغ، اضطرت إلى قبول ثنائية طائفية، لأنها لم تستطيع القضاء على البروتستانت. ويعتبر مرسوم نانت، مثل سلام أوغسبورغ، شر لا بد منه. الدين البروتستانتي أصبح معترفا به كحقيقة، هو نتيجة لتصدع تجربته، على حد قول المتبارزين، تبيّن أن "الله وحده باستطاعته علاجه". المكانة الممنوحة للبروتستانتية قائمة بذاتها طالما ظل أعضاؤها هادئين، ولكنها في الأحوال ليست قيمة إيجابية. الحل الفرنسي مثل الحل الإمبراطوري، حل سياسي. فهو مع ذلك يختلف عن حل الإمبراطورية : بدلا من تجاور دول مذاهب مختلفة ولكن بأرثودكسية ثابتة داخل أراضيها، فقد فرض ملك فرنسا داخل مملكته ما سمي لاحقا ب"التعايش في التعصب". ينظم هذا التعايش حثى في التفاصيل الصغيرة ببنود عديدة دقيقة في غالب الأحيان.