الإمبراطورية والكنيسة
مصالح متقاربة
سعى الحكام الجرمانيون، منذ البداية، لمواجهة سلطة الكبراء، الحازمين دائما على معارضة الوصاية الملكية، إلى اكتساب دعم الكنيسة الرومانية. هذا التحالف هو أيضا من أسس الملكية نفسها، ونشأ في نفس الوقت عن التزام الكنيسة واختيار سياسي للحكام. من أجل مواجهة سلطة اللأمراء وتأكيد سلطة ملكية متقلبة، ولكنها تضمن الحماية الممنوحة لرجال الدين والكنيسة، فإن الإكليروس والأساقفة في المقدمة، اختاروا دعم الحاكم المقدّس على نطاق واسع، خلال مجمع Concile d'Hohenaltheim[1]. اختلقت الكنيسة هنا حجة قوية ذات أبعاد مستدامة، بتشبيهها الثورات ضد الملك بثورات "ضد الوطن وضد العقيدة". من جانبهم، استند الحكام، أمام ضعف المؤسسات الدولية وغياب إدارة ملكية، إلى هذه الكنيسة وأطرها، منضوين بهذا تحت تقليد كارولونجي.
دعّم أوتون الأول وخلفاؤه هذا الاختيار لجعل الكنيسة عماد السلطة الملكية في نظام غير رسمي لكن فعال[2]. جعلت من الأساقفة الذين يلتحقون بالإدارة وبحكومة الإمبراطورية، الجهاز الأساسي. بتنازلات كبيرة عن الممتلكات والحقوق والمناصب والمسؤوليات التي تضاف إلى ممتلكات وموارد الأرشيات، وجد الأساقفة أنفسهم تدريجيا على رأس مجموعات ضخمة. يمكن أن تصل هذه الصلاحيات إلى التنازل عن مقاطعات كاملة، بل ابتداء من الستاوفنيين[3] عن دوقيات : تسلّم رئيس أساقفة كولونيا في 1180 وستفاليا (Westphalie) بلقب الدوقي، الذي سبق أن تلقاه رئيس أساقفة فورتسبورغ سنة 1168. هكذا نُصب الأساقفة تدريجيا على رأس مجموعات واسعة والتي يديرونها باسم الملك، عبر تفويض السلطة الملكية. شكلوا أغلبية الأمراء : في منعطف القرن الثالث عشر، يشتمل الدييت الملكي على خمسة عشر تابعيين ملكيين علمانيين، مقابل 80 أمير كنسي، يمثلون الجزء الأكبر للملكة.
في مقابل هذه السياسية الليبرالية اتجاه الأساقفة نجد تدخل الحاكم النظامي في الانتخابات الأسقفية. مع الأتونيين، هناك تدريجيا قبضة السلطة الملكية على التعيينات. تعترف بها البابوية الغير قادرة على مواجهة حركة تعترف بعضوية أساقفة المملكة. في وسط هذه الشبكة، تشكل الكنيسة الملكية (Hofkapelle) تجمعا حقيقيا لاختيار الأساقفة، الذين تمّ تكوينهم جميع بالقصر والذين هم مرتبطون بالحاشية الملكية.
البعد الامبراطوري للسلطة الملكية
سهلت طبيعة السلطة الملكية هذا التقارب مع الكنيسة، حكومة زمنية برّرتها طقوس التقديس والبعد المزدوج لسلطة الحاكم الذي هو في نفس الوقت ملك وإمبراطور. برر هذا البعد الإمبراطوري تطلعات السلطة الملكية لقيادة الكنيسة، انطلاقا من العناصر المتواجدة في مملكتها، واعتبار الأساقفة كمساعدين لسلطة ينظر إليها وتُدرك حسب البعدين الروحي والزمني.
التتويج الإمبراطوري لسنة 962، هو في نفس الوقت إتمام وإحياء لقوة السلالة السكسونية على رأس المملكة الجرمانية منذ 919، وبرنامج سياسي (restauratio romani imperii)، وإحياء للعالم المسيحي اللاتيني كقوة سياسية سيادية في نفس الوقت في الأوساط البابوية وفي حاشية الحاكم. هذا التأمل في البعد الإمبراطوري للسلطة يشير إلى عالمية وعظمة الأباطرة الرومانيين المسيحيين للإمبراطورية السفلى، من ضمنهم قسطنطين[4] الذي يشكّل النموذج الكامل. يمثل التتويج الإمبراطوري لسنة 962 كذلك وبالأخص إحياء إمبراطورية فرنجة شرلمان. هذه المرجعية الكارولونجية ثابتة في الملكية الجرمانية؛ يتلقى الملك المقدّس والمتوج بإيكس لاشابيل التاج المنسوب لشارلمان، والذي يستخدم كذلك للتتويج الإمبراطوري. رفع ذخائر شارلمان، الذي أصبح في تعداد القديسين تحت حكم فريدريك الأول[5] في 1165، ينضوي تماما تحت هذا النسب الذي يهدف إلى تمجيد الملكية وتعزيز الميزة المقدسة لملك متوج.
إذا كان للحكام الجرمانيين، مثل من عاصروهم من الحكام الآخرين، مهمة ضمان قيادة كنيسة المملكة، فإن البعد الإمبراطوري لسلطتهم ابتداء من 962 يمنحهم مسؤوليات أكثر شمولية. إن الإمبراطور ملك وكاهن (rex et sacerdos) في نفس الوقت، إنه مرصود للدفاع عن المسيحية، وكذلك الحق في الإدلاء برأيه في الاتجاه الذي تأخذه. هذا المفهوم الغربي لسلطة الإمبراطور هي نتيجة لتأويل قام به البابا جلاسيوس الأول Gélase (492-496). ضد إرادة الأباطرة البيزنطيين لحكم الكنيسة بسبب الطبيعة المزدوجة لسلطتهم، يعني زمنية وإلهية في آن واحد، وضع في رسالة مشهورة موجهة إلى قيصر بيزنطة أناستاسيوس[6] "نظرية السلطتين أو السيفين" (la théorie des deux glaives)، التي تحدد الأدوار الخاصة بكل من البابا والإمبراطور. إن سلطة الأمير رغم ذلك ليست زمنية فقط : عبر وسائل السلطة الزمنية (glaive)، يجب عليه أن يحمي ويدافع ويسير "الشعب المسيحي". ترجمة دنيوية للملكية الالهية، تكسو الهبة الإمبراطورية إذاً بعدا كونيا، تجعل من الأمير شخصية مقدّسة تختلف عن العلمانيين البسطاء، شخصية تؤكدها مراسم الاحتفال التي تحمل اسم الـ"تقديس". بموجب هذا المنصب، لا يمنع الحكام الجرمانيون أنفسهم من التدخل في الشؤون الداخلية للكنيسة. بلغ هذا النظام ذروته حوالي سنة ألف، عندما وصل أوتو الثالث[7] إلى روما واستقر بها مع صديقه ومساعده جيربر دورياك، الذي جعل منه البابا سلفستر الثاني[8]، موسعا بذلك ممارسات الكنيسة الإمبراطورية على مستوى العالم المسيحي.
عززت ممارسات السلطة الملكية في جرمانيا، هذا المفهوم الإمبراطوري للسلطة، مما أدى إلى توترات مع البابوية. بدأ الصراع في القرن الحادي عشر، عندما وصل حزب الأديرة، الحركة القوية للتجديد الداخلي التي هزت الكنيسة منذ القرن العاشر، إلى البابوية. وقد طمحت هذه إلى تحرير الكنيسة من الوصايات الزمنية لتأكيد بعد شمولي لسلطتها التي هي أقوى وأعلى من سلطة الملوك. تفاقمت الحالة بسبب وضعية دول الكنيسة، في نفس الوقت داخل وخارج الإمبراطورية، وذلك على ما كانت عليه صورة روما، عاصمة العالم المسيحي إضافة إلى صورة الأباطرة الذين لا يتوقفون لإثبات أنفسهم ك"ملوك الرومانيين". لذا أصبح الكفاح ضد الإمبراطورية، بالنسبة للبابوية، مسألة محورية من أجل استقلالهم والسيادة التي تعتزم تأكيدها على ممالك العالم المسيحي اللاتيني. الصراع له أيضا آثار مباشرة على تنظيم وطبيعة السلطة الملكية. أدت الطبيعة المبهمة لسلطة الملكية وطبيعة السلطة الإمبراطورية، على نطاق الأبرشيات، إلى خلط بين البعثة الدينية والبعثة السياسية للأسقف، الذي هو في الوقت نفسه عميل السلطة الملكية (regnum) والكنيسة الشمولية (sacerdotum). وجد الأساقفة أنفسهم، مع تقوية وتطوير الكنيسة لحركة الإصلاح القوية والطموح لتخلّص من الضغوطات السياسية، مقسّمين بين ولائهم للملك والولاء المستحق للبابوية.