وهم اسباني مبني على تهديد خيالي
هناك فجوة كبيرة بين الأسباب التي أدت إلى طرد اليهود ومن بعدهم الموريسكيين (مسلمو الأندلس) من إسبانيا والتصورات أو التمثلات المهيمنة على العقليات الجماعية في شبه الجزيرة الايبيرية لعدة قرون. وقد استندت هذه التصورات على الخوف المتبادل، من ما سمي "بالتضامن الإسلامي" من جهة، ومن ردود الفعل المسيحية من جهة أخرى، لدرجة أن "كل مورسكي مسلم كان محط اتهامات واشتباهات شتى من قبل المسيحيين الذين كانوا بدورهم في نظر المورسكيين مجرد جواسيس يعملون لحساب محاكم التفتيش". كانت كل الأحداث: حركة التمرد في غرناطة : 1568-1570، القرصنة، الحسابات الايديولوجية العثمانية والمفاوضات الدبلوماسية بين القوى الإسلامية والقوى البروتستانتية، الخ. كل هذه العوامل إذن كانت مواتية لتكريس شعور هش يمتزج بانعدام الأمن والثقة لدى الرأي العام. كانت الذاكرة الجماعية تستخدم وتستعمل جوانب سلبية، لأغراض سياسية، ترجع حتما إلى الماضي القريب الذي يستمد شرعيته من حملات المرابطين[1] التوسعية ومن بعدهم الموحدين[2] ثم المرينين[3]. هكذا إذن تم طُرد وتهجير اليهود (1492) أولا نظرا للاعتقاد السائد بعدم وجود "دول مذهبية تضامنية" معهم، وفي الوقت نفسه كان المسيحيون يعتقدون بأن الموريسكيين المسلمين يتمتعون "بتضامن مذهبي"، يمكنهم من الضغط على السلطات الحاكمة الشيء الذي أخر، ولمدة طويلة، طردهم وتهجيرهم من الأندلس (1609-1614). وفي كلتا الحالتين، يجب أن نسطر مسألة في غاية الأهمية : تلك هي بناء الهوية الاسبانية حول مبدأ رئيسي يكمن أساسا في الكاثوليكية الموحدة التي صدت وحاربت كل ما يناقضها، قلبا وقالبا، عقيدة ومذهبا ودينا..
تفيد التصورات والتمثلات الجماعية السلبية بأن "العيش المشترك أصبح مستحيلا" بين عالمين غير متجانسين بل مختلفين ومتناقضين كليا. وهذا ما نستشفه من خلال قراءتنا لأطروحة الباحث الفرنسي المختص لويس كارداياك (Louis Cardaillac) حين يؤكد بان هناك "غياب تام للعيش في سلام مشترك". تهدف هذه التصورات الجماعية السلبية، التي يقودها رجال الكنيسة و جزء مهم من بعض المؤرخين الاسبان، إلى تشويه الحقائق الثابتة. هكذا ركز المؤرخ ميغيل انخيل في كتابه حول مورسكيي المغرب (Les Morisques du Maroc, Miguel Angel) ودوّن بان المؤرخين "كانوا جميعا مقتنعين، بشكل أو بآخر، بطرد المورسكيين، شأنهم في ذلك شأن الرأي العام [...]. والسلطات الدينية والسياسية التي كانت على علم بأن المورسكيين لا يشكلون أي تهديد حقيقي لأمن إسبانيا، لكنهم استغلوا هذا الاعتقاد لأغراض سياسية". وقد استنتج ميغيل انخيل بأن ما كتبه المؤرخون يمثل "دعاية لتبرير الطرد" ليس إلا. ولعل الأدهى من ذلك هو "فرض الرقابة على الوثائق، لدرجة أنه تم إخفاء معلومات هامة، عن الملك، تنتقد الكنيسة الكاثوليكية". كل هذه الأحداث تعكس القوة الهائلة التي أصبحت تتمتع بها السلطات الدينية التي لا يمكن مخالفتها، بل أنه كان من اللازم أن يطابق الموقف الرسمي (أي موقف الكنيسة) كل التصورات والتمثلات العامة.
كان المسئولون الرسميون عن الطرد يتمثلون أساسا في رئيس أساقفة فالنسيا[4] والبطريرك ريبيرا[5] الذين روجوا لكل الصور والتصورات السلبية لدى الموريسكيين ضد "الايمان الكاثوليكي"، الشيء الذي أدى في آخر المطاف إلى عدم الاعتراف "بالوطنية الاسبانية للمورسكيين" الذين كان يُنظر إليهم على أنهم "تهديد دائم" لاسبانيا الكاثوليكية، وعلى النقيض من ذلك كان فيليب الثالث[6] يُعتبر ويُصور "كبطل لاسبانيا" الموحدة أخيرا. ولعل "وثائق مجموعة هولندا" (مذكرات ورسائل يعود تاريخها إلى فترة 1542-1610)، تبرهن بشكل قاطع على أن المنظّر الحقيقي لدولة اسبانيا الموحدة، المبنية على أساس مفهوم "العرق"، هو دومينيكي الذي كان عضوا مهما في محاكم التفتيش في فالنسيا واسمه الحقيقي هو فراى خايمي بليدا[7]، وكان قد ألف كتابا مفاده بأن "القضاء على المورسكيين ضرورة ملحة". ويمكن أن نلخص الموقف العام لهذا التيار، الذي لم يكن يعارضه أحد، على النحو التالي: "وصل المورسكيون إلى اسبانيا كمغاربة ومسلمين ويجب عليهم الرحيل كمسلمين كذلك". هكذ تم بناء وفبركة العمل الدعائي المعتمد على التضليل والمعلومات الخاطئة لتمهيد الطريق لكي يقتنع الرأي العام بتدابير الطرد والتهجير اللاحقة.
كان المخيال الاسباني في تلك الحقبة التاريخية يشوه ويعطي صورة سلبية وناقصة عن اليهود والموريسكيين على حد السواء، وذلك عبر الحكايات والأساطير والأمثال الشعبية والأحكام المسبقة أو أحكام القيمة. وكأن هؤلاء الموريسكيين واليهود هم بمثابة أناس ليس لديهم لا تاريخ ولا جغرافية، أي أنهم منبوذون وليس لديهم وطن وبالتالي محكوم عليهم حتما بالتمييز العنصري والاحتقار الدائم. بعد تحقيق طويل أورد بيدرو أزنار كاردونا (Pedro Aznar Cardona) شهادات على أن كل "مورسكي يُشتبه به لأنه يشارك في المؤامرات"، والأهم، أن "عاداتهم كانت مثل أطفال وأسرة الشيطان" . وكان الملوك الكاثوليك أول من فهم أهمية التصور الجماعي لترسيخ بشكل أسهل نفوذهم وضمان الاستمرارية. وبناء "اسطورة وطنية" يستند على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي كتلة من السهل تسميتها، تهاجم وتطرد، والثانية كتلة مناهضة مهمتها تعتبر "مقدسة" وهي تساند ملوكها وتحارب معهم ضد "الكفار" و"الزنادقة" أكانوا يهود أو مسلمين أو بروتستانت أو أتراك أو "مغاربة" أو "مورسكيون"...
كل من المتخصصين بمسألة المورسكيين امثال لويس كاردياك وميغيل انخيل دي بوينس ايبارا وأنطونيو دومينغيز وبرنارد فانسانت وغيليرمو غوسلبيس بوستو ورافائيل كاراسكو تكلموا على طريقتهم عن "علاقات الصدامات" المتعلقة بفكرة "الثقافة" أو "الحضارة" والتي تكمن في "الرفض المتبادل للآخر" و"رفض تقديم التنازلات". وأستخدم رودريغو دو ساياس عبارة "عنصرية الدولة" للتعبير عن سياسة ملوك اسبانيا في القرن السادس عشر والتي كانت يتمحور حول رغبة التوحيد فمطهر "الامة" ينطوي على التوحيد الديني. ولكن لتجنب المفارقات التاريخية يجب استخدام هذا المصطلح بحذر : فمفاهيم "العنصرية" السائدة في العصر الحديث لا تفسر تاريخيا هذه السياسة. وفي القرن العشرين بنيت قراءات أخرى عن "قضية المورسكيين". وهذه التصورات لا تخلو من الغموض، أولا لأن الجنرال فرانكو اعتمد على وحدات من الجنود المسلمين الآﺁتين من المغرب للقتال ضد الحكم الجمهوري في العام 1936 في حين أنه ظهر كمدافع عن الكاثوليكية، ومن جهة أخرى بسبب هجرة المسلمين الى اسبانيا في أواخر 1970 والتي بنت سياقا جديدا لتفسير الماضي.