إن دمنينا العجيبة، رغبة منها في أن تعيش على طريقة مارون الملهم الذي تلكمنا عنه أعلاه، اصطنعت لها كوخًا من قصب
الدخن في حديقة بيت أمها وسكنت فيه. ]…[ وهي تذهب عند صياح الديك إلى المعبد الإلهي القريب منها لترفع ابتهالاتها
إلى رب العالمين مع سائر الناس نساءً ورجالًا. ]…[ إن طعامها هو العدس المسلوق وهي تحتمل كل هذا الجهاد في جسم
كأنه هيكل عظام شبيه بالأموات. ]…[ بناء عليه، فإن هذه المرأة الممتلئة فلسفة، التي تبكي وتنوح وتتنهّد كأولئك العائشين
في أقسى العوز، بأية عبارات يمكننا أن نفيها حقها في المديح؟ إنه هو الحبّ الحارّ لله الذي يولّد هذا البكاء عندما يضرم
النفس بالمكاشفة الإلهية وبنخسها بمهمازه فيدفعها إلى أن تغادر هذه الحياة الدنيا. ]…[ هناك الكثيرات أمثالهنّ يعشن الحياة
التوحّدية أو يعشن في المحبة الحياة المشتركة، وقد لاغ عددهنّ المئتين والخمسين تقري بًا. وهنّ يعشن العيشة نفسها ويتناولن
كلهنّ الطعام نفسه ولا يرتضين بالرقاد إلا على الحصير، ويستعملن أيديهنّ لغزل النسيج، وألسنتهنّ التسابيح.
هذه هي أشهر أمكنة الخلوة الفلسفية الكثيرة التي يُعجز عن تردادها، ليس في بلادنا فحسب، بل أيضًا في الشرق كله.
ففلسطين ملأى منها وكذلك مصر وآسيا والبنطس أوروبا كلها. ومنذ أن المسيح ربنا قد كرّم البتولية في ولادته من عذراء،
وقد أخصبت البراري بالبتولية. وهي تقدّم للخالق أزهارًا لا تبلى، دون تمييز بين فضيلة الرجال وفضيلة النساء، ولا تقسيم
الفلسفة أيضًا إلى نوعين، لأن التمييز يقوم في الأجساد وليس في النفوس.