بعد أن كتبتُ سيرة حياة هؤلاء الرجال الأبطال، أرى مفيدًا أن أجعل ذكرًا للنساء اللواتي جاهدن هنّ أيضًا بعزيمة ليست في
شيء أقل من عزائم أولئك، لأنهن رغم طبيعتهنّ الضعيفة قد أظهرن من البسالة ما يضاهي شجاعة الرجال. وبذلك قد
حرّرن جنسهنّن من عارهنّ التقليدي. وأبدأ بذكر مارانا وكيرا اللتين تفوقتا على جميع النساء ببطولتهما في الجهاد. بيرية
حلب هي مدينتهما. وطبقتهما هي المثلى فيها. وتربيتهما كذلك. ولكنهما قد تخلتا عن هذا كلّه وجعلتا لهما حصنًا صغيرًا عن
مدخل المدينة وأوصدتا الباب بالطين والحجارة. ]…[ أما هما فتعيشان في الهواء الطلق دون غرفة ولا كوخ.
معاطاتهما مع الزوار
وقد هيّأتا نافذة عوض الباب يصل إليهما الطعام الضروري بواسطتها وتخاطبان منها النساء الآتيات لزيارتهما. لكن هذه
الزيارات لا يسمح بها إلا في زمن العنصرة فقط. أما في سائر أوقاتهما فهما تلتزمان ممارسة حياة الهدوء. ومارانا هي
وحدها التي تتولى المعاطاة مع الزائرات، لأن الأخرى لا يسمعها أحد قط تتكلم.
إماتاتهما بشهادة تيودوريطس
وهما ترزحان تحت عبء الأثقال الحديدية، حتى أن كيرا، وهي الأضعف، يبقى جسمها كله منحنيًا نحو الأرض فلا تستطيع
أن تنتصب البتة. وهما ترتديان ثيابًا طويلة جدًا يجرّانها وراءهما على الأرض فتسترُ الرجلين تمامًا. أما من الأمام، فهي
تنحدر حتى الخصر فتحجب منها الوجه والعنق والصدر واليدين.
وقد شاهدتهما مرارًا وأنا في داخل ذلك المعبر الذي كانتا تأمران بفتحه لي إكرامًا لدرجتي الأسقفية. ومن ثم رأيتهما وهما
تحملان من الأثقال الحديدة ما يعجز عن جمله رجل معافى. ولكثرة لجاجتي توصلتُ إلى إقناعهما بالتخلي عنها في أثناء
حضوري. ولكنهما بعد ذهابي كانتا تعودان إلى إرجاع تلك الأثقال إلى محلها في الجسم: الطوق الحديدي في العنق والزنار
في الخصر والباقي في الذراعين والرجلين.
موضوع تأملهما
وهما تسيران على هذه الطريقة من العيش ليس منذ خمس سنوات أو عشر أو خمس عشرة فحسب، بل منذ إثنين وأربعين
سنة أيضًا. وهما، وقد مضى عليهما كل هذه المدة في الجهاد لا تزال حرارتهما فيه على ما كانت في البدء. فهما تتأملان في
جمال العريس الإلهي فتتحملان بكثير من الارتياح وبسهولة أكثر أتعاب مسيرتهما وتتطلعان بفروغ الصبر إلى غاية
جهادهما حيث تشهدان حبيبهما واقفًا ينتظرهما وهو يلوّح لهما بإكليل الظفر. ولهذا السبب هما تتقبلان سقوط المطر والثلج
عليهما وحرارة الشمس دون ما حزن أو تذمّر، بل هما تجنيان تعزية في وسط هذه العوارض التي تبدو أنها مزعجة لا
تطاق.
زيارتهما للقدس ولقبر القديسة تقلا
واقتداءً منهما بصوم موسى، قصدتا الامتناع عن تنازل الطعام ثلاث مرات لمدة طويلة على مثاله، ففي أثنائهما لم تتناولا
شيئا من الطعام إلا بعد مضي أربعين يومًا. وقررتا أن تصوما صوم دانيال الإلهي لمدة ثلاثة أسابيع ثم أعطيتا طعامًا
لجسدهما. وخطر لهما يومًا أن تشاهدا الأماكن المقدسة بآلام المسيح الخلاصية، فأسرعتا نحو آليا دون أن تأكلا شيئًا في
الطريق، ولكنهما لدى وصولهما إلى المدينة المقدسة وإتمامهما مراسيم العبادة، تناولتا طعامًا، ثم قفلتا راجعتين دون طعام،
من سفر اقتضا له عشرون يومًا من السير. ثم أيضًا تلبية لرغبتهما في أن تشاهدا ضريح تقلا المظفّرة في أيصورية فتضرما
في المنازل نار المحبة الإلهية، راحتا إلى هناك صائمتين ذها بًا وإيابًا بدافع من العشق الإلهي الذي أخرجهما عن ذاتهما
وجعلهما تجنّان في محبة عروسهما الإلهي.
وعليه، لما غدتا بسيرتهما هذه زينة لجنس النساء ومثالًا لهنّ جميعًا، فإن البّ قد هيّأ لهما أكلّة الظفر. أما أنا وقد بيّنتُ الفوائد
المجتناة من ذلك، فبعد أن حظيتُ ببركتهما، أنتقل بالكلام إلى سيرة أخرى.