انتفاضة كسروان (1858-1860)
كشفت مغادرة شكيب أفندي ثغرات النظام. حاول الشيوخ المسيحيون مثل الدروز استرجاع جزء من سلطتهم المفقودة. حاول كل من الروس والإنجليز كل من جانبه، في الوقت الذي أوشكت فيه حرب القرم (1835-1856) على الانتهاء، إضعاف المواقف الفرنسية التي استفادت أكثر من تطبيق التنظيم. الصراع على السلطة مفتوح داخل القائمقامية المسيحية من أجل تقلد الوظيفة الكبرى. دوت أخيرا ثورة المزارعين ضد الأعيان، لاسيما الخازنيين[1]. تغذت بأفكار جديدة، "الحرية" و"المساواة" التي شحنتها الثورات الأوروبية والتي نقلها الرهبان الموارنة. وسط هذه الانشقاقات، حاول المقدّمون كسب المزارعين لقضيتهم. بدأ المزارعون بتنظيم أنفسهم بقرى كسروان منذ فبراير-مارس شباط\اذآر1858. انتخبت كل قرية شيخ شباب[2] لتمثيلها. وفي عشية عيد ميلاد المسيح سنة 1858، انتخب طانيوس شاهين (1815-1895)[3]، شيخ شباب رايفون، مفوضا عاما على جميع كسروان.
لم يتخذ خورشيد باشا[4]، والي صيدا، أي إجراء لتهدئة الهيجان، سيُتّهم فيما بعد بإثارة طرف ضد آخر قبل أن تبرئه المحكمة. حاول البطريرك بولس مسعد (1806-1890)[5]، بدون جدوى، إيجاد تسوية مرضية بين الطرفين. رفض الخازنيون جميع التسويات. طردهم المزارعون الذي صادروا ممتلكاتهم وجعلوها متاحة للعموم. تفرق الشيوخ يبحثون عن ملجأ بجبيل والمتن وبيروت وعاشوا حياة غير مستقرة، زهاء ثلاث سنوات. اقام شاهين المحرر، سلطة خاصة بكسروان. أحاط نفسه بمجلس أعضاءه من وكلاء القرى. يقيم المجلس العدل ويضمن الأمن ويوزع الممتلكات. اتخذت قرارات "من قبل سلطة الشعب... من قبل سلطة حكومة شعبية". أثارت هذه الروح "الجمهورية" (انظر) قلق سلطات الجزء الشمالي.
تجند الدروز في حرب هادفة إلى توسيع سلطتهم، لذا كانوا حريصين على الحفاظ على العلاقات الاجتماعية والتقليدية، ومنزعجين من الدعم الاوروبي –لاسيما الفرنسي- الممنوح للمسيحيين، مدفوعين بعقلائهم[6] ومشجعين بفتوة شيخ دمشق عبد الله الحلبي (09/1808-70/1869)[7] معلنا أن "المسيحيين لا يمكنهم أن يكونوا على حد سواء مع المسلمين" ومشجعين الإساءة لهم. دعمتهم القوات العثمانية، وحسب المناطق، من طرف السنيين (لاسيما في المدن الساحلية) والشيعيين. انتصروا في كل مكان، في الشوف وفي البقاع ووادي التيم. إن ضخامة المجازر 20000 قتيل، 100000 لاجئ، شدة التدمير، إفلاس السلطات العثمانية لتدارك الوضع والخوف من امتداد الاضطرابات لمناطق الأخرى من آسيا قادت القوى الاوروبية إلى التدخل عسكريا وسياسيا. انطلق في 16 غشت\آب 1860، مشاة من 12000 جنديا، ضمنهم 6000 فرنسيا، على الفور مع بعثة لمساعدة الفرق العسكرية العثمانية لاستعادة النظام. أبحرت أساطيل إنجليزية وفرنسية تجاه الساحل. التزم مسؤولون مسلمون، أمثال عبد القادر[8] في دمشق، بحماية المسيحيين شخصيا. تأسست لجنة دولية من أجل التحقيق في أسباب المجازر وتعويض الضحايا وإقامة نظام سياسي قادر على تهدئة المنطقة.
بعد ستة أشهر من المفاوضات ببيروت، اتفق ممثلي القوى الأوروبية والباب على مشروع لحسم الصراع. صادق السفراء ألاوروبيون والباب على النص. وهكذا خرج إلى حيز الوجود النظام الاساسي الذي فتح نظام المتصرفية[9] الذي حكم جبل لبنان لمدة نصف قرن، من 1861 إلى غاية 1915. وفّر له سلاما نسبيا وازدهارا مربحا إلى حد ما. ألغاه جمال باشا[10] سنة 1915، خلال الحرب العالمية الأولى. غير أن هذا النظام سمح بتمكين التحويل المؤسساتي بعد محن الحرب وكان بمثابة أساس لإنشاء الجمهورية اللبنانية.