السياسة والدين وبناء الدولة (القرن11 -16 / 19)

الحرب الأولى ونهاية إمارة الشهابيين (1841-1842)

إن أسباب الانقسام متعددة. إنها سياسية وديموغرافية ودينية وثقافية، تفاقمت عبر تدخلات خارجية. هناك مشكلتان ظلتا رئيسيتين. الأولى ضريبية وتتعلق بالضرائب المدفوعة للباب العالي الذي وعد للمسيحيين بالإعفاء اعترافا بمحاربتهم لمحمد علي[1] وكتعويض عن الخسائر التي تكبدوها خلال انتفاضة ربيع-صيف 1840. لقد نكت الباب بوعده، نظرا للحالة المادية للإمبراطورية نكث الباب بوعده، وطلب زيادة في الجزية. رفض المسيحيون الدفع. تذ مّر الدروز[2] من جهتهم كونهم الخاضعون الوحيدون للضرائب. إنجلترا تتماطل من جهتها. أمام هذا التردد، أعدّ البطريرك يوسف حبيش (1787-1845)[3] خطة ضريبة معينة من أجل جبل لبنان حيث أقام كحد أقص 3500 منحةمالية -وهو ما يتناسب مع المبلغ المدفوع قبل الاحتلال المصري- : 1000 إلى 1200 منحة مالية يجب أن تدفع للباب، لكن الأغلبية يجب أن تسند إلى الإدارة المحلية. يلاحظ المبعوثون الدبلوماسيون الإنجليز، من بينهم ريتشارد وود[4]، الطبيعة الجريئة للمشروع الذي يؤكد على الإستقلال الذاتي للجبل، إلا أنه مشروع غير مقبول. أظهر البطريرك عزمه وأعلن أن زيادة الضرائب في عهد المصريين مّكن على الأقل المزيد من الأمن الطمأنينة، في حين أن العثمانيين لايفون بوعودهم ولا يقومون بواجباتهم. كما أكد على مطالبة أخرى متحديا بها آثار بعض بنود معاهدة 1838 السلبية على الاقتصاد، والتي تستفيد منها التجارة الإنجليزية على وجه الخصوص. شوشت نزاعات دينية تحديدا العلاقات بين البطريرك حبيش والبريطانيين. من أجل الدفاع عن الوحدة والاستقلال الذاتي وخصوصية الكنيسة المارونية حظر البطريرك تبشير المبشرين البروتستانت[5] منذ 1823 وقد هدد بالحرم الكنسي الموارنة الذين دخلوا في علاقة مع من اعتبرهم "زنادقة". تمّ طرد المبشرين من نواحي مارونية حصراً نحوى مناطق مختلطة. اقتربت لندن آنذاك من الطائفة الدرزية.

المشكلة الثانية سياسية، تتعلق بضعف بشير الثالث وبعدم قدرته على حكم جبل لبنان. حاول الباب العالي والقنصل وود تدارك عجز محميهم وذلك بتوصيته بإنشاء مجلس يتكون من 12 عضوا يمثلون بصورة تناسبية جميع الطوائف، وافق البطريرك الماروني، تحت شرط الحفاظ على "شرعية السلطة" واحدة وغير مجزأة يمارسها الشهابيون على جبل لبنان الموحد. رفض الدروز (انظر)، وطالبوا بحاكم منهم وأكدوا على أنهم مستعدون للقتال ضد المسيحيين باسم ولائهم للسلطان وإخلاصهم للإسلام. لم يأت أي قرار من إسطنبول، هيأ البطريرك مشروعا سياسيا في 12 نقطة دعمت أكثر استقلال الجبل. اعتبر البرنامج برنامجا توريا بالنسبة لتلك الفترة، يسعى لتزويد جبل لبنان بدستور مصغر من أجل بناء دولة مستقلة، يحكمها أمير شهابي، تربط يشاركه الشعب بجميع الترتيبات المؤسساتية : التشريعية والقضائية والمالية.

خمسة أشهر من المفاوضات التي التزم بها الأعيان والمسؤولون العثمانيون والمبعوثون الدبلوماسيون لم تؤد إلى أي حل فيما يخص بتوزيع الضرائب ونوع السلطة التي يجب إقامتها في الجبل. على العكس، ازداد التوتر واستقر اختل الأمن في جميع المناطق. في ربيع 1841، حادثة صيد أو لعب كانت بمثابة ذريعة لمواجهات طائفية. حصيلة : 17 قتيلا، جميعهم دروز. أعرب البطريرك، باسم المارونيين عن اعتذاره وبعث مفاوضا إلى أعيان الدروز من أجل حل النزاع، غير أن المصالحة كانت سطحية. لقاء زعماء الجبل الذي نظمه بشير الثالث بدير القمر هو مناسبة للانتقام من جانب الدروز : تّمت محاصرة المدينة وسلمت للنهب، تكبدت التعزيزات المسيحية هزيمة ضد الدروز المدعومين من القوات العثمانية. تدخل سليم باشا[6]، الذي آزره القنصل الانجليزي والكولونيل روز (1801-1885)[7]، وضع حدا للصراع. لكن مواجهات طالت جهات أخرى. زحلة، المدينة المسيحية الكبرى في البقاع كانت هدفا للهجومات، لكنها تلقت دعم الأمير الشيعي خنجر حرفوش[8]، متسلّم[9] بعلبك، واستفادت من تدخلات الدبلوماسيين وود Wood وباسيلي (1809-1884[10]) Basili . بيد أن المسيحيين تكبدوا هزائم في أماكن أخرى، لكن من بين 1500 ضحية، غالبية كانت من الدروز.

منتصرين في كثير من الأحيان على أرض الواقع، إضافة إلى تشجيع البريطانيين لهم (انظر) الذين عززوا خلق مقاطعات عقائدية في المنطقة، كرّر الدروز مطالبتهم بحكومة معينة. كما هاجموا مباشرة ولمرتين متتاليتين بشير الثالث الذي أطاح به الباب العالي نهائيا وبدل بعمر باشا (1806-1871)[11] وأرغم على نفي نفسه إلى إسطنبول : في 16 يناير 1842، أعلن مصطفى باشا[12] ببيروت نهاية إمارة الشهابيين، مستجيبا هكذا لمنطق تنظيمات[13]، مبنية أكثر على وصاية العثمانيين المباشرة.

  1. محمد علي

    محمد علي )١٨٤٩-١٧٦٩(، ذو ٔاصل ٔالباني، ٔاسس سلالة الخدیوي التي حكمت مصر بین ١٨٠٥ و١٩٥٢. بعدما سحق الممالك، حاول ٕادخال ٕاصالحات في جمیع القطاعات. تعاون مع السلطان العثماني في صراعاته ضد الوھابیین واالستقلالیین الیونانیین. حكم فلسطین وسوریا بین ١٨٣٢ و ١٨٤٠ وكان یظن ٔانه سیعوض خسائره في الیونان وسیقیم مملكة عربیة. جذب له ھذا المشروع عداء مفتوحا مع السلطان. استفاد ھذا الأخیر من تمرد ١٨٤٠ ودعم القوى الأوروبیة الموقعة على معاھدة لندن في یولیوز سنة ١٨٤٠، لطرده من المجالات التي استولى علیھا، وبمنحه مع ذلك لقب وراثي على مصر.

  2. الدرزیة

    ٔاتباع مذھب شیعي، منشق عن الإسماعیلة ومزود بنصوص ومراجع محددة. عرفوا تنظیما تحت الحكم الفاطمي، في القرن الحادي عشر. تدور باطنیة التعلیم حول الخلیفة الحكیم الذي یماثل العقل الأول. نجد من بین الوعاظ الأوائل لھذا المذھب الجدید التركي انشیكین الدرزي )من ھنا جاء مصطلح "الدروز"(، وحمزة بن علي من ٔاصل فارسي. ٔادت وفاة الخلیفة سنة ١٠٢١ ٕالى ٕازالة الحركة التي كانت قد انتشرت بین المزارعین في مصر بجبل الشیخ. یكون الدروز جماعة منغلقة على نفسھا، لھم عادتھم الخاصة. تنقسم الطائفة الى "حكماء" و"جھلاء"، ویتعین على "الحكماء" یراعوا سبع وصایا. حافظ الدروز على بعض عناصر الدین الإسالمي، لكنھم یعقدون اجتماعات سریة في ٔاماكن خاصة للعبادة، وینتظرون ظھور

    الحكیم وحمزة اللذین یجب ٔان یحققوا العدالة في العالم.

  3. یوسف حوبیش )1787-1845(

    تلمیذ مدرسة عین ورقة، ٔاصبح بطریرك في سنة ١٨٢٣. ٔاصلح النظام وقداس الاحتفال الماروني. اعتزم على لعب دور الحكم في الأحداث

    المتضاربة التي مست بطائفته بین ١٨٣٠ و١٨٤٥. عارض التبشیر البروتستانتي. ھیأ مشروعا سیاسیا استقلالیا وتقدمیا.

  4. ریتشارد وود

    ریتشارد وود )١٨٠٨ و١٩٠٠(، ٔادى مھنة دبلوماسیة بالقسطنطینیة ودمشق وتونس قبل ٕاحالته على المعاش سنة ١٨٦٥. خبیر جید بالمنطقة منذ ١٨٣٢-١٨٣٣ ، تعلم العربیة في منتصف الثلاثینات، حرض على الانتفاضة ضد محمد علي في لبنان سنة ١٨٤٠. اتخذ ٕاجراء حاسما لصالح زحلة في ١٨٤١ وحافظ على صورة "دبلوماسي رقیق" في المخیال الجماعي اللبناني. بالنظر لكاثولیكیته، رفض بامیرستون Palmerston

    تعینه قنصلاعاما ببیروت، وعینه قنصلا بدمشق. ترك مراسلات دبلوماسیة ضخمة متعلقة بتجربته )نشرت جزئیا(.

  5. المبشرین الدینیین

    یعود تواجد البروتستانتیین بالشرق الأوسط ٕالى الثلث الأول من القرن التاسع عشر ویلبي مجموعة من الأھداف. مقابل ھذه الظاھرة الخطیة للعلمنة، تجلى ٕاحیاء روحي في بعض البلدان مثل الوالیات المتحدة وٕانجلترا ؤالمانیا وترجم برغبة في استكشاف الكتاب المقدس في وسطه الأصلي، ومعرفة تقالید الطوائف المسیحیة الشرقیة القدیمة، واستدعاء ٔاھمیة "الخالص الفردي" ونشر الخبر السار "Bonne Nouvelle" بین الغیر مسیحیین من یھود ومسلمین. قادت عدة حوافز المبشرین البروتستانتیین ٕالى الاستقرار ببیروت : الأمن وٕامكانیة الحصول على ممتلكات عقاریة وسھولة التلاوم مع الكنائس الأم والأجواء الملائمة... كان ٔابرشیو الأمریكان بورد Board والمتواجد مركزھم بمدینة بوسطن ٔاول من وصلوا ٕالى المنطقة وعملوا فیھا وحدھم ٕالى غایة ١٨٧٠. شكل البروتستانت الأرمن طوائف خاصة بھم في سنة ١٨٤٦. ٔاخذ عمل الأبرشیین شكال ثلاثیا : الوعظ والتعلیم وترجمة الكتاب ٕالى اللغات المحلیة. ھكذا شكلوا بمساعدة المعتنقین الجدد الأبرشیات الإنجیلیة الأولى بإسطنبول في ١٨٤٦ وببیروت سنة ١٨٤٨ وبحصبایا في ١٨٥١. ظھرت الطبعة الأولى العربیة للكتاب ببیروت سنة ١٨٦٧، عشر سنوات قبل طبعة الیسوعیین. تم توزیع النص في شكل كتیبات صغیرة من ٔاجل ٕامكانیة نشر واسعة وتجمیع رٔاي القراء فیما یخص سھولة قراءة النص قبل ٕاعطاءه الشكل النھائي. ساھم ھذا المشروع في تجدید اللغة العربیة وتحدیث التقنیات المطبعیة والطباعة. تأ ّصلت الشبكة المدرسیة ابتداء من سنوات ١٨٣٠ مثل ٕانشاء كولیج روبرت

  6. سلیم باشا

    وزع والي صیدا الأسلحة على سكان جبل لبنان، مما عزز الخالف، ؤازم الوضع وھدف ٕالى اتبات ٔان وجود الإمبراطوریة العثمانیة له ٔاھمیة كبرى لأن الإشراف المباشر ھو الضمان الوحید للسالم.

  7. الكولونیل روز

    مارس ھوغو روس Hugh Rose حیاة مھنیة عسكریة في ٕانجلترا ؤایرلندا ومالطا ولبنان وسوریا والقرم والھند. عینه بالمیرستون Palmerston قنصال عاما ببیروت سنة ١٨٤١؛ وبقي ھناك ٕالى غایة ١٨٤٨، ساعد المبشرین الأمریكیین على الاستقرار بلبنان، ساھم في توسیع نطاق الحمایة الإنجلیزیة للدروز وتدخل في ٔاحداث ھذه الفترة. ترك لـ Foreign Office مراسلة كبیرة تعكس نظرة ٕانجلترا حول "المسألة الشرقیة" والوضع بجبل لبنان.

  8. خنجر خرفوش

    وجیه شیعي یدیر منطقة بعلبك باسم باشا بعلبك.

  9. متسلّم

    الوجیه الذي یدیر جھة متواضعة الحجم باسم الوالي.

  10. باسیلي )١٨٨٤-١٨٠٩(

    مستشرق وكاتب ودبلوماسي روسي، ولد في ٔاسرة ثریة معروفة بمعارضتھا للعثمانیین. دعم جده التمرد في ٔالبانیا سنة ١٧٧٢ ودعم ٔابوه الحركة الیونانیة لالستقلال سنة ١٨٢١. تم تعینه وزیرا للشؤون الخارجیة في ٓاسیا سنة ١٨٣٣، ثم قنصل ببیروت سنة ١٨٣٨ في سیاق المنافسة بین القوى من ٔاجل السیطرة على الإمبراطوریة العثمانیة. دافع باسیلي عن مصالح بالده وعن مصالح زملائه الأرثوذكس. ٔاقنعھم ٔان الروس الوحیدون القادرون على حمایتھم، لھذا السبب یجب ٔان یكونوا متضامنین. بقي في منصبه بین ١٨٣٩ و١٨٤٥ وتعامل مع الأزمة المصریة-العثمانیة وطالئع حرب القرم، ترك كتاب بعنوان سوریا وفلسطین تحت العثمانیین.

  11. عمر باشا )١٨٧١-١٨٠٦(

    ضابط عثماني ٔاعلى، لقب بالنمساوي. ولد بكرواتیا تحت اسم میشال لیت Michel Lettes، اعتنق الاسالم. قام بحیاة مھنیة في الإدارة العثمانیة، وھو ما قاده لممارسة منصب حاكم. لا یبدي مترنیش Metternich ٔاي احترام لمن یعتبره ك"مرتد".

  12. مصطفى باشا

    والي صیدا في ١٨٤١، مسؤول عن ٕادارة ٕاعادة النظام لجبل لبنان بعد نفي بشیر الثاني ووضع حد لولایة الشھابیین. ٔاضحت المھمة صعبة بسبب الحالة االقتصادیة للجنود ٔانفسھم وبسبب الشائعة التي وفقا لھا وجوده یھدف ٕالى مساعدة الدروز وٕاضعاف الموارنة..

  13. تنظیمات

    كلمة مشتقة من العربیة وتعني "ٕاصالحات"، "تنسیق"، "ٕاعادة تنظیم". في التاریخ العثماني ھي مرحلة تغریب ٕاصالحات الفترة التي تمتد من ١٨٣٩ ٕالى ١٨٧٦. اإلصالحات التي تعتبر ثوریة مست جمیع القطاعات : السیاسیة، القانون، اإلدارة، الجیش، المالیة، التجارة، النقل. ابتدٔات الفترة األولى )١٨٥٦-١٨٣٩( بفرمان وضعھ السلطان عبد الحمید )١٨٦١-١٨٣٩( في نوفمبر ١٨٣٩ یسمى («")

    Hatti chérif de Ghulkhane"ٔامر عال من مجلس الورود النبیل"، ثم "ٔامر عال ٕامبراطوري" Hatti Humayoun في نھایة حرب القرم : ٔاعلنت المساواة بین جمیع رعایا السلطان، مسلمین ومسیحیین. شملت الفترة الثانیة ٕاعالن دستور ١٨٧٦ الذي حد سلطات السلطان. مع ذلك، تم تعلیق ھذا "القانون األساسي" بضعة ٔاشھر الحقة.

السابقالسابقالتالي التالي 
استقبالاستقبالطبع طبع  السا غصّوب،محاضرة باحثة في جامعة الروح القدس في كسليك (لبنان) إسناد - غير تجاري - غير قابل للتغيير تم إنجازه بسيناري Scenari (نافذة جديدة)