السياسة والدين وبناء الدولة (القرن11 -16 / 19)

قوة الفقهاء تحت حكم المرابطين

استند التوجه السياسي-الديني على حامل ثلاثي: زيدي ومالكي ومعتزلي. تنضوي الزيدية[1] ضمن المعارضة الشيعية لكن دون المطالبة بكل العناصر: تأخذ عن السنة مبدأ "اختيار" الخليفة وترفض أن تعتبر الخليفتين الأولين، أبو بكر وعمر، ك"مغتصبين" معتبرة في نفس الوقت أن الإمامة من حق نسل علي وفاطمة. وبعبارة أخرى، إنها تستعير حجج من القوتين المسلمتين الرئيسيتين وتؤكد أن الحق الشرعي للسلطة يجب الدفاع عنه بالسلاح. تعتبر المعتزلة[2] كأول مدرسة تبريرية نظرية (الكلام). ارتبط أصلها بالنقاش الدائر حول حالة المسلم الذي يرتكب خطأ يوصف بالجسيم : يصفه الخوارج ب"الكافر"؛ غير أن المعتزلة يعتبرونه "فاسقا" مستحق لوضعية وسطية بين "الكافر" و "المؤمن". بتأكيد المعتزلة على وحدة الله المطلقة يبرهنون على صفة "خلق" النص القرآني، الشيء الذي حفز العلماء والفقهاء المسلمين على تبني هذا المبدأ أو رفضه. أصبح الفكر المعتزلي تحت حكم الخليفة العباسي المأمون[3] المذهب الرسمي للسلطة، والذي فرض بالقوة. لكنه سيرفض لاحقا، بنفس العنف، تحت حكم الخليفة المتوكل[4]. تخلى الاشعري[5]، في بداية القرن العاشر، عن صفوف المعتزلة، بغية تأسيس مدونة المراجع الخاصة بالسنة والتي تنضوي تحتها المدارس السنية الفقهية الاربعة الرئسية: المالكية والحنفية والشافعية والحنبيلة.

تبنى الأدارسة المذهب الفقهي المالكي. مالك بن أنس[6]، أول مؤلف لكتاب في الشريعة الإسلامية : المؤطأ. هذا المؤلف مستوحى من الممارسة القانونية لأهل المدينة التي عاش في قلبها مالك بن أنس لفترة طويلة. زاد من قيمة معايير الرأي الشخصي (الرأي) والبرهنة ب "القياس"، أكثر من البرهنة بالحديث (أقوال وأفعال رسول الإسلام)، مع احترامه وتقديره للرسول. تدرج المصادر الإسلامية ما يقارب ثمانين راو وقارئ للموطأ، عشرات منهم قدموا من الاندلس أو إفريقية مثل القيرواني ابن سينان[7]. في هذه الفترة، لم يكن الحديث وارداعند "مدرسة" قائمة على نظام محضّر يسمح بدعم تشريع وقانون معينين : كانت الخلافات في بعض الاحيان عنيفة، والعدالة تتحقق حالة تلو الحالة (حسب الحالات)، دون تأكيد منهجي، وذلك على الأقل حتى وفاة أبي سعيد سحنون[8] الذي وضع المدونة : قانون لحالات مستمدة من التجربة، عكس المذهب الحنفي حيث الحالات كانت عبارة عن افتراضات. ابتدءا من نهاية القرن التاسع، سادت ظاهرة التكرار- التقليد في دوائر الفقهاء : حيث يعاد الكل لقضية تعليلية معروفة والتي أعطى لها الفقيه، وبطريقة مسبقة، الحلول المناسبة.

المرابطون هم محاربين باسم الإسلام. اجتمعوا في البداية حول عبد الله بن ياسين[9]، الذي أسس رباط[10]-حصن- حوالي سنة 1048، جمع رجال مكرسين للعبادة والقتال. تعاون ابن ياسين مع يحيى بن عمر[11] الذي تأثر بدوره بالشيخ الفاسي[12]، من فقهاء القيروان الذي التقى به أثناء العودة من الحج[13]، سنة 1039، أوجب ابن ياسين على المسلمين تطبيق المذهب المالكي بطريقة أكثر صرامة. استأنف في هذا التوجه يوسف بن تاشفين الذي، كان في الميدان السياسي، لا يتردد للجوء إلى الممارسات القبلية : الكفاح العسكري ضد القبائل التي تعتبر "كافرة"؛ إنحاء أبي بكر بن عمر[14]، الشخصية التي ثمثل الوصاية الأولى، بإغداقه بالهبات والهدايا التي حصل عليها من غنائم الغزو (الخيول والأسلحة والذهب والعبيد العذارى والأقمشة)؛ منح وتوزيع المناصب المهمة للسلطة بين أعضاء أسرة موسعة. وبما أنه مفتون بالعمارة الأندلسية، استخلص العبر بغية بناء المساجد والقصور أو الأسوار في شمال إفريقيا، الشيء الذي زاد من هيبته. التزم شعراء بتمجيد مزاياه ومزايا خلفائه كابنه علي بن يوسف[15]. ويعتبر الدور المسند للفقهاء[16] المبدأ المميز لحكومة المرابطين، هؤلاء الفقهاء تلقوا تكوينهم، في شؤون الإمبراطورية، بمدرسة القيروان،. لم يسلم أي ميدان من فتاوى[17] هذه الشريحة المهيمنة عن طريق قاضي القضاة الذي يهيئ، بالإضافة إلى ذلك، قوة مالية لإدارة صندوق المؤسسات الوقفية. هذه الممارسة أدت إلى جدال (انظر الرابط) ملحوظ بين طرفين : أبو حامد الغزالي[18] من جهة، الذي انتقد غياب استعمال المنطق لمعالجة الحالات الجديدة، وقاضي سبتة القاضي أبي الفضل بن موسى بن عياض[19] وقاضي قرطبة ابن حمدين[20] من جهة أخرى، الذين أمروا بحرق جميع كتب الغزالي، وإعدام أو نفي أتباعه. ذلك لأنه بطعنه في المرجعية التعليلية (casuistique) المالكية الواردة في الفروع[21] والفرق بين ما يفرضه الفقهاء وحقيقة حياة المسلمين الذين يرجحون اختياراتهم في حياتهم الشخصية والجماعية، وفي هذا الخضم ، تمكن ابن تومرت من جمع عدد من الأتباع المقاتلين حوله.

  1. الزیدیة

    ٔاحد الفروع الشیعیة التي یعترف ٔاتباعھا بالشرعیة الحصریة لخمسة "ٔائمة"، الإمام الخامس ھو زید بن علي زین العابدین )٧٤٠-٦٩٨(.

    تشریعھم قریب من تشریع المدارس السنیة.

  2. المعتزلة

    تیار فكري سني. انبثق في النصف الاول من القرن الثامن المیالدي في منطقة البصرة، وازدھر تحت حكم الخلفاء العباسین الاوائل. استخدم العقل، طعن ٔاتباعه بعض الاحادیث )"الافعال" و"الاقوال" المنسوبة للرسول محمد( ویسألون ٕاخوانھم في الدین عن القضایا الاساسیة المتعلقة بعقیدة )وحدانیة الله(: طبیعة الصفات الإلھیة مكان الارادة-الحرة، خلق النص القراني وطبیعته، وضعیة المسلم الذي یرتكب الخطیئة. كانت ٓارائھم تغري البعض لكنھا كانت مذمومة عند العلماء، ستفرض نفسھا بالقوة قبل ٔان رفض كذلك بالقوة.

  3. المأمون

    عبد الله المأمون )٨١٣٨٨٣٣-٧٨٦(، الابن الثاني لھارون الرشید، استولى على السلطة بعد ثورته على ٔاخیه وٕاعدامه. وجب علیه مواجھة الحركات المتمردة المتعددة، والحرب ضد البیزنطین، باالعتماد على الفرس. تمیز حكمه بإشعاع ٔادبي وعلمي استند، السیما، على ترجمة مجموعة من النصوص الإغریقیة واألرمینیة والفارسیة ٕالى العربیة، وبوضع شروحات لھا، وكذلك بھیكلة المعرفة في زمانه في ٔاماكن معینة مثل بیت الحكمة الأسطوري.

  4. المتوكل

    جعفر المتوكل )٨٦٢-٨٤٥-٨٢٢(، ابن ٔاخ عبد المؤمن، الخلیفة العباسي العاشر. ادعى لقب "ظل الله في الأرض"؛ سلك توجھا دینیا معاكسا لتوجه عمه بتحریر خصم معاد للتیار المعتزلي : ٔاحمد ابن حنبل. دعم ھكذا المفھوم الحنبلي للسنة واعتزم ٔان یضع حدا للنقاشات الدائرة حول خاصیة خلق القران ٔاولا . تخللت مدة حكمه مجموعة من الثورات، وبھذا كان ھو نفسه ضحیة لمؤامرة دبرھا ضباطه الأتراك.

  5. الاشعري

    ٔابو الحسن الاشعري ) ح.٩٣٥-٨٧٤(، تكون على ید المعتزلة، میز نفسه الحقا بقیادة صراع فكري ضد مكونیه، مستندا على المدونة الحنبلیة والتي انتقد ٔاتباعھا استقاللیة العقل. عارض مذھب خلق القران، لكن رفض الموقف الذي یقر بأن الأصوات والحبر في النص القراني ٔابدیان: بالنسبة له خاصیة ٔان القران غیر مخلوق یجب ٔان تفھم كصفة من صفات الله. ینضوي تحت لوائه ٔاكبر علماء السنة لاسیما الغزالي.

  6. مالك بن ٔانس

    حوالي )٧٩٥-٧١٥(، ٔاحد الائمة الأربعة المؤسسین للمدارس الفقھیة المعروفة لدى السنة. اشتھر مالك بن ٔانس بعلمه للحدیث وإلن كان ٔاعطى مكانة كبیرة )للراي( والمنطق عن طریق )القیاس( في تفسیر القران. یعتبر كأول مؤلف لكتاب في الشریعة اإلسالمیة : الموطأ.

  7. القیرواني ابن سینان

    )٨٢٨-٧٥٩(، ٔابو عبد الله الأسعد بن الفرات ابن سنان، قاضي القیروان؛ كان من طلبة ابن مالك.

  8. ٔابي سعید سحنون

    ٔابو سعید سحنون )٨٥٥-٧٧٦(، ٔاحد العلماء المالكیین المشھورین بالمغرب الكبیر. ولد بالقیروان، التي تابع دراسته بھا قبل ٔان یرحل ٕالى المشرق لمتابعة دراسته. قام بعد ذلك بنشر ما ٔاصبح یعرف ب"المدرسة المالكیة"، في ٕافریقیة والاندلس. یعد كتابه المدونة الكبرى من ٔاشھر كتبه.

  9. عبد الله بن یاسین

    بربري ولد في جنوب المغرب الحالي )ت ١٠٥٨(، مؤسس الحركة المرابطیة، ھو الذي ٔاكسبھا ھذه االبعاد الثالث، التربیة، العلم، والتكوین العسكري، ارتبط بالقائد العسكري، یحي ابن عمر، من قبیلة لمتونة، من ٔاجل خلق قوة عسكریة قویة، اتجھت في البدایة ضد السكان السود )"بالد غانا" ابتداء من ١٠٥٤( ثم نحوى الشمال حیث حارب السكان الذین بمتابة "زنادقة".

  10. رباط

    المرابطین یعني "الذین من الرباط"، من "المعسكر المسلح" جدر الكلمة اللفضي یعني "عسك َر"، "موقوف" والتحویل اللفضي مرتبط مع المكان حیث یواجه الشخص "العدو". وبالتالي كان كذلك ھو المكان حیث یتعلم الشخص، یتكون في العلم.

  11. یحیى بن عمر

    یحي بن عمر )ت. ١٠٥٦(، زعیم "الملثمین" )ٔاُناس من قبیلة لمثونة(. یعني ٔاولئك الذین كانوا محتجبین، الذین یغطون وجوھھم ب )اللثام(. قتل خلال معركة طابفاریا Tabfarilla .

  12. الفاسي

    ٔابو عمران موسى )١٠٣١-٩٧٥(، ولد بفاس ثم استقر بالقیروان. ٔاحد ٔاعظم علماء المدرسة المالكیة في الغرب الاسالمي.

  13. الحج

    الحج ٕالى مكة، ٔاحد الأركان الخمسة الأساسیة في دین الاسالمي

  14. ٔابي بكر بن عمر

    ٔاخ یحیى بن عمر )ت. ١٠٨٧(، وقائد المرابطین بین سنة ١٠٥٦ و١٠٦١، واصل مشروع الغزو معتمدا على ابن عمه یوسف بن تاشفین حیت فوض لھذا الأخیر سلطاته وترك له زوجته قبل ٔان ینسحب ٕالى الصحراء حیث توفي بعد ذلك بربع قرن.

  15. علي بن یوسف

    ابن یوسف بن تاشفین، ٔاصبح قائد المرابطین بعد وفاة والده.

  16. للفقھاء

    جمع فقیه، وھو رجل قانون.

  17. فتاوى

    رٔاي فقھي.

  18. ٔابو حامد الغزالي

    ھو ٔابو حامد محمد الغزالي )ح، ١١١١-١٠٥٥(، من ٔاشھر علماء السنة، كان ٔاشعري المذھب. تلقى الغزالي تكوینه في الفقه والفلسفة، كما ٔانه ٔاعلن انتماءه ٕالى الصوفیة. ٕان معرفة الغزالي للفلسفة والتیارات الفكریة في عصره، بما فیھا تیارات الشیعة الإسماعلیة، جعلت حججه تجدب عضویة عدد من ٕاخوانه في الدین. من بین كتاباته الأكثر ٔاھمیة، تجدر الاشارة ٕالى "المنقد من الضلال" و"تھافت الفالسفة". ھذا الكتاب الأخیر الذي استھدف السیما )ابن سینا(، قد طعن فیه ابن رشد )١١٩٨-١١٢٦( برده علیه في كتابه "تھافت التھافت".

  19. ٔابي الفضل بن موسى بن عیاض

    ٔابو الفضل بن موسى بن عیاض )١١٤٩-١١٨٣(، قاض مالكي ولد بسبتة، شغل كذلك وظیفة مؤرخ. بالإضافة ٕالى معارضته للغزالي، تمیز القاضي عیاض بمعارضته للموحدین كذلك، حیت ٔاثار ضدھم تمردا. لكنه فشل، ؤاجبر على عقوبة النفي ٕالى مراكش. ٔاشھر كتاب له یقع تحت عنوان "الشفاء".

  20. ابن حمدون

    قاضي قضاة قرطبة )١١١٤(، ؤاحد ٔاشھر علماء الأندلس، كان مقربا من ٔاسرة المرابطین الحاكمة.

  21. الفروع

    رسائل في التطبیقات القانونیة.

السابقالسابقالتالي التالي 
استقبالاستقبالطبع طبع  مبارك لمين, أستاذ في جامعة أغادير ابن زهر إسناد - غير تجاري - غير قابل للتغيير تم إنجازه بسيناري Scenari (نافذة جديدة)