استراتيجية التنصير في اسبانيا: القضاء على "البدع"
تتميز الديانات التوحيدية بسمات مشتركة ولكنها تطورت جزئيا بصفة منغلقة أو متصارعة منذ بروز المسيحية أولا ثم الإسلام. في الأندلس كان هناك تعايش مع نوع من التطبع في بعض الأحيان (مثلا: نشر اللغة العربية في خضم الأواسط الأدبية من بين اليهود و المسيحيين)، تقاسم تقاليد في اللباس وما يتعلق بالطبخ بوتيرة أقل. موازاة مع ذلك كانت توجد اختلافات في العادات والتقاليد التي حافظت على كيان المجتمعات التي ظلت قابلة لتعيين هويتها بعد قرون، ما سمح لحاكم الموحدين في بعض الأحيان، رفض غير المسلمين.
غيرت حرب الاسترداد موازين القوى السياسية والعسكرية و برزت مشكلة إدارة التعددية الدينية والثقافية للشعب الذي وضع تحت سيادة المملكة. لا تنحصر هذه المسألة على شبه جزيرة أيبيريا فقط, حيث تميزت هذه الحقبة بسقوط الإمبراطورية البيزنطية وتوسع الإمبراطورية العثمانية التي تمثل الذرع الحامي للإسلام و المسلمين في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
عبر الملوك الذين تداولوا عن رغبتهم في الوحدة والنقاوة الدينية التي كانت تبدو لهم أساسية من الناحية الزمنية والروحية، حيث كان من المستحيل آنذاك، كما قال فرناد بروديل، الفصل بين الحكم السياسي والديني، وهو ما يعني عدم البحث عن الروح المشاركة بين الديانات لكن المسيحية كانت تحارب الهرطقة أكانت يهودية أو مسلمة أو برتستانتيية.
لقد سعت المبادرة الأولى، التي شاركت بها الدولة والكنيسة المسيحية، إلى استقطاب الناس الذين اعتنق أسلافهم الإسلام إلى المذهب والعقيدة المسيحية وتلت هذه المبادرة حملة تنصير المسلمين وكانت مبنية على التبشير والمعمودية، وإذا كان مرسوم عام 1502 والقاضي بالاختيار بين التنصير أو الرحيل، فإن القوانين التي صدرت بين 1511 و 1526 أكدت هذا الاتجاه لتشمل تحريم جميع الممارسات اليومية أنواع الكتابات والطقوس الثقافية .
في بيئة يهيمن المسيحيون فيها منذئذ، تعددت استراتيجيات اليهود والمسلمين. وكان من بينها مغادرة إسبانيا اتجاه شمال إفريقيا أو شرق البحر الأبيض المتوسط طوعا حيث يجد المسلمين أنفسهم في "أرض مسلمة" في حين حظى اليهود بتسامح ديني أحسن مما هو عليه الحال في شمال البحر المتوسط. لكن تكون خيبة الأمل عميقة في بعض الأحيان (مجهول: أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر). طريقة أخرى تكمن في ممارسة الديانة واحترام التقاليد بخفية هذا على الرغم من المعمودية : هذا الكتمان الذي يسمى "التقية" (حسب الرسالة التي بعثها المفتي الجزائري أحمد بن أبي جمعة المغراوي الوهرانى)، قد ظهر خاصة عند اليهود الذين لا يأملون في مساعدة أجنبية قادرة على إبعاد عسكري للحكم المسيحي المستقر في شبه جزيرة إيبيريا. كانت المجادلات عديدة وكان موضوعها الرئيسي "النفاق" أو "الدفاع عن الإيمان". كان ضغط جماعة المسيحيين القدامى[1] الذين لا يختلطون مع غيرهم شديد وكانوا يتحرشون بالمرتدين وبالذين صمدوا لم يتنازلوا عن ديانتهم (الحجري، ناصر الدين على القوم الكافرين، ص 125 - 131). كان الماران[2] الذين احتلوا مناصب سياسية و اقتصادية مهمة مواضيع إشاعات (الحجري، ناصر الدين على القوم الكافرين، ص 119- 124)، كانت ذات أبعاد اجتماعية أيضا.
كانت محاكم التفتيش أهم وسائل محاربة "الهرطقيين". بعد قرابة 3 قرون على إنشاء المؤسسة التي تهدف المسيحيين المتهمين بالانحراف عن الطريق الصحيح تم تأسيس تحت سيادة فردناند أرغون و إيزابيل دي كاستي وبموافقة من سيكستوس الرابع المجلس الأعلى لمحاكمة التفتيش الإسبانية. مهمتها الرئيسية كانت محاربة مجموعة من "الجرائم" الدينية أو السياسية أو الأخلاقية محرومة من قبل الكنيسة الكاثوليكية و ملك إسبانيا. فإن بعض الممارسات كالاعتراض على السلطة وامتلاك كتب مناهضة للمسيحية أو بعض الممارسات الزوجية (مثل تعدد الزوجات) كانت يحكم عليها في بعض الأحيان إلى تعذيب مشروعة أو إدانة أو تحقيق (بارتلومي بن نصار). إذا كان الشعور "بالذنب" معترفا به و إذا كان المتهم يرفض الاعتراف "بأخطائه"، يصدر الحكم قضائيا وعلى السلطات المدنية تطبيقه. وكانت الجالية اليهودية أو ذو أصول يهودية متماسكة نسبيا لتجنب هذه المحاكمات. وفيما يخص المسلمين فجزء منهم اعتمد على فتوى)الونشريسي، المعيار المعرب ص 119 – 124) لمغادرة أرض الاباء. في سنة 1524 في أشبيليا، علقت لافتة (تاريخ نقد التفتيش في إسبانيا) تبين الأحداث التي أقدمت عليها السلطات.
كان هدف المملكة الإسبانية ضد اليهود و المسلمين واحدا، وإن اختلفت الوسائل السياسية . لقد تلى سقوط مملكة غرناطة طرد اليهود. كانت محاولة منع تطبيق المرسوم من قبل بعض أعضاء الطائفة اليهودية بتقديم مبلغ من المال للملك فرديناند قد تسبب بردة فعل سلطات الكنيسة المسيحية التي اعتبرتها مساومة و خيانة. لقد دامت الإجراءات أكثر من قرن حيال المسلمين عامة و المورسكيين خاصة، و لم تكن الأسباب ذات طابع ديني و لكن ذات طابع اجتماعي : كان وجود شخصيات يهودية في مؤسسات الحكم دون مقابل مقارنة بالمسلمين. و كان المورسكيون يصنفون كهؤلاء الذين لم يختلطوا بالأغلبية الكاثوليكية. بعد ثورة المورسكيين أو ثورة البشرات[3] ، حاولت السلطات الإسبانية كسر الانغلاق بفرض هجرات داخلية. لكنها باءت بالفشل كونها نقلت المشكلة من مكان إلى آخر.
اتخذ الحكام الإسبان الذين يعرفون أنفسهم كمدافعين للقضية المسيحية تدابير جذرية فيما يخص اليهود والمسلمين على بعد قرن من الزمن. وفيما يخص اليهود لم يكن الإجراء جديدا وكان يجمع بين الأسباب الدينية والأسباب الإقتصادية والإجتماعية. فمنذ القرن الثالث عشر كان اليهود عرضة لعدة إجراءات طرد اتخذها ملوك انجلترا القادمين من الإمبراطورية الرومانية-الجرمانية المقدسة و من مملكة فرنسا. وفيما يخص المسلمين ليس هناك سابقة، إلا في حالة جزيرة مالطا : حيث لم يتخذ الصليبيون المؤسسين لمملكة القدس اللاتينية أو لمقاطعة طرابلس مثل هذه الإجراءات، مثلهم مثل الحكام النورمانديون في صقلية بعد 1130 و بعد إعلان عن تأسيس مملكة جديدة. علاوة على المعاداة الدينية ثمة تحرك جغرافي وسياسي يخص الإمبراطورية العثمانية و السلطات المغربية و إنجلترا "الهرطقية"، وقد وقعت فرنسا معاهدة مع السلطان والولايات الألمانية التي تبنت الاصلاح البروتستانتي.