تكريم الآلهة في البحر الأبيض المتوسط ​​القديمة وهوامشها

دعوة يسوع الراديكالية و"تحدي التشتت"

صورة يسوع كزعيم مهمّش وكشخصية "خارج المكان"، تطابق التقديم الذي مدّنا به مرقس منذ بداية سرده، وذلك ببعد يسوع عن الناصرة ولقائه بيوحنا المعمدان[1]. يبرز يسوع مثل شخص راشد ترك المكان الذي وُلد فيه، بغية عيش تجربة دينية فريدة، مسرعا مثل الآخرين، من أجل المشاركة في طقس الغطس (انظر سرد تعميد يسوع حسب الإنجيليّ مرقس) الذي قدمه يوحنا. إذا كانت هذه صورة يسوع التي وصفها الإنجيليّ، فإنه ليس من الصعب تصور ما يمكن أن يكون على المحك بالنسبة للذين قرروا أن يصبحوا أتباعه. لأنهم لم يكونوا مستعدين لاستقبال دعوة شخص غريب تماما، أخذتهم على حين غرة، انقاد الأتباع الأربعة الأوائل (ثم بعدهم كل الآخرين)، مباشرة لاجتياز حالة استثنائية. إنهم ليسوا أشخاصا مهمّشين (متسولين، مرضى...)، إنهم أعضاء نشطاء في عائلتهم مع سهولة الحصول على بعض الموارد، معتادون على العيش في استقرار يضمنه لهم الفضاء الاجتماعي المنزلي. لكن هذا الاستقرار على وجه التحديد، سرعان ما حطمه يسوع عندما طلب منهم بأن يتبعوه.

James Tissot, Jésus en voyage, 1886-1896. Brooklyn Museum, New York. (© www.brooklynmuseum.org)معلوماتمعلومات[2]

وبتعبير آخر، يصف مرقس دعوة راديكالية تجبر التابع على تغيير حياته بالكامل. فمن ناحية، بدعوته سمعان وأندراوس، ويعقوب ويوحنا، لم يقطع يسوع صلة القرابة بين الإخوة، -لكن يبدو أنه أراد إعادة استخدامها كأساس لتضامن جديد-؛ أما من ناحية أخرى، فالقطيعة بين الأتباع وعائلتهم تمثلت في التخلي عن العمل، وبالأخص الأب الرمز المثالي بامتياز للأسرة وما كان يمثله في العالم القديم. في مقابل استقرار الفضاء الاجتماعي للبيت، يمثّل يسوع حياة متحركة لا تعرف الاستقرار، تتميّز بتقاسم نمط عيشه المتنقل، وبقبول مهمّة غامضة، كأن يصبح (أتباعه) "صيّادي الناس". لإنجاز مهمة كهذه، وجب على الأتباع التنقل من مكان لآخر، عوض البقاء مستقرين. وقد عبّر الإنجيليّ عن هذه الضرورة سواء في إشارة إلى يسوع، أو إلى الأتباع. لذا قال يسوع بوضوح، بعد أن دعا أتباعه الأوائل وبشّر وعافى الناس في كنيس[3] كفرناحوم، أنه ينبغي "الذهاب إلى مكان آخر" (مرقس 1، 38).

تواجدت الضرورة نفسها في وقت لاحق، ولو بطريقة أقل وضوحا، في كلام يسوع الموجّه إلى الاثني عشر[4]، الذين أوفدهم في مهمّة:"وحيثما دخلتم بيتا، فأقيموا فيه إلى أن ترحلوا." (مرقس 6، 10). فهؤلاء شأنهم شأن يسوع، لا يمكنهم البقاء مداومين في مكان ما، وإنما يجب عليهم المكوث[5] به إلا إذا دعت الضرورة. شرط التنقلّ وإعادة التموضع المستمرين هو ما يسميه هالفور موكسينيس Halvor Moxens ب"تحدي التشتت". بعدما أن يترك بيته وبيئة الأصلية، يجد التابع نفسه في نوع من مثوى الأموات[6]، متميزا بتنقل مستمر وغياب مكان معيّن: دعا يسوع الذين اختارهم أن يتبعوه وأن يصبحوا صياديّ الناس، ولكن هذا لا يعني الذهاب إلى مكان جديد ، لا من وجهة نظر اجتماعية (طائفة جديدة)، ولا من وجهة نظر مادية (بيت جديد). يبقى التابع في هذا "اللامكان" عالقا في وضع وسط، بين مكان النشأة الذي غادره أصلا وبين مكان جديد لا وجود له إلى ذلك الحين.

يمكن اعتبار هذا الوضع على ضوء النموذج الأنثروبولوجي لطقوس العبور، كخطوة ثانية لعملية من ثلاثة مراحل: ا) فصل، التابع منفصل عن بيئته الأصلية؛ ب) استهلالية[7]، يجد التابع نفسه في حالة اجتياز، عالق بين ما كان من قبل (الكينونة) وما سيصير (الصيرورة)؛ ج) إعادة التجمّع، عندما ينتهي "العبور"، يجد التابع نفسه مدمجا ثانية في المجتمع، مع وضع جديد ودور جديد. لا يوفر هذا المنظور اندماجا جديدا، التشتت الذي يطلبه يسوع من الأتباع، يستلزم حالة استهلالية دائمة. غير أنّ الأمور لا تسير على هذا النحو في سرد مرقس. في نصنا يمكننا ملاحظة إمكانية حضور شيء خفي، مُضمَر، شيء يبدو أنه يقلّص قوة دعوة يسوع الراديكالية: فليس من قبيل الصدفة أن يلمّح مرقس مرتين، بعد النداء، عودة تابع من الأتباع إلى البيت. بما أنه ليس أمرا قطعيا ، فإن التخلي المؤقت عن الأهل له قيمة مختلفة، ليس فقط بالنسبة للتابع الذي قرّر التخلي عن بيته ليتبع يسوع، ولكن كذلك بالنسبة للأسرة التي فقدت أحد أفرادها.

  1. بیوحنا المعمدان

    یوحنا المعمدان، واعظ كاریزمي نشط بفلسطین في عھد یسوع. ترتبط شھرة یوحنا ارتباطا وثیقا برسالته الدینیة، وبالأخص طقس الغطس في میاه الأردن، حیث لقبه المعمدان/المعمد )حرفیا "الذي یغطس"؛ من الفعل الیوناني baptizō: "غطس"(. حیاته السابقة محاطة بالغموض: قصة والدته، التي یرویھا الإنجیل ّي مرقس ٔاسطوریة. تھدف المصادر المسیحیة ٕالى جعل یوحنا المب ّشر بقدوم یسوع. ٔاكد المؤرخ الیھودي جوزیف فالفیوس، الوجود التاریخي لشخصیة یوحنا، حیث ذكره في كتابه العصور الیھودیة القدیمة )الثامن عشر، ٢ ،٥(. من المرجح ٔان یوحنا توفي في

    بدایة الثالثینیات، بعد نفیه بأمر من ھیرودوس ٔانتیباس حاكم الجلیل وبیریا.

  2. Caption: James Tissot (French, 1836-1902). Jesus Traveling (Jésus en voyage), 1886-1896. Opaque watercolor over graphite on gray wove paper, Image: 5 7/8 x 10 3/16 in. (14.9 x 25.9 cm). Brooklyn Museum, Purchased by public subscription, 00.159.152 Image: overall, 00.159.152_PS2.jpg. Brooklyn Museum photograph, 2008 disponible sur : http://www.brooklynmuseum.org

  3. كنیس

    كنیس، مصطلح مستمد من الیونانیة sunagôgē التي تعني "جمعیة" )اقتباس من العبریة beth-hakeneseth: "بیت اجتماع" (. ھناك نقاشات حول مسألة مكانة ووضعیة ال ُكنُس في "ٔارض ٕاسرائیل" في عھد یسوع. زاد اقتناع الباحثین، بفضل نقش یعود للقرن األول تم العثور علیه في كنیس یوجد في القدس )نقش ثیودوتوس( بأن المعابد كبنایات، كانت موجودة بفلسطین قبل السبعینات. زیادة ٕالى ذلك نعلم ٔان الأمر یتعلق ببنایات "متعددة الاستعمالات"، حیث كانت تجرى، ٕالى جانب الصالة ودراسة التوراة، العدید من الأنشطة، وھي ٔانشطة لا تمد بصلة بالعبادة )على سبیل المثال،

    خدمة الضیافة للحجاج والمسافرین(.

  4. الاثني عشر

    الاثنا عشر، یعرفون كذلك ب"الرسل الاثنا عشر". اختارھم یسوع بنفسه، شكلوا حلقة صغیرة من الاتباع بأدوار ومھام متمیزة. العدد "اثنا عشر" ھو رمز بالتأكید ویشیر ٕالى قبائل ٕاسرائیل الاثني عشر. تسمیة "رسول" مشتقة من الالتینیة apostolos ، حرفیا "مبعوث"، "مكلف بمھمة " )من فعل apostellō "بعث"(.

  5. المكوث

    مكث، تندرج بین فعلین من ٔافعال الحركة، "دخل" )eiserchomai( و"خرج" )exerchomai(، تشیر كلمة "مكث" )menō( بوضوح ٕالى استمراریة مؤقتة، ولو لفترة معینة.

  6. مثوى الأموات

    limbus مثوى الأموات، مصطلح مستمد من الالتینیة

    والذي یعني "ھامش"، "حاشیة". ظھرت الكلمة ابتداء من القرن الثالث عشر، في التقلید الالھوتي المسیحي لإلشارة ٕالى مكانین من اآلخرة: األول، مكان ٕاقامة )ٔاو حالة( مؤقت ألرواح الأبرار الذین استبعدوا من الرٔویة القدسیة، رغم الطھر من الخطیئة، ٕالى غایة صعود المسیح المنتصر ٕالى السماء )limbus patrum: "مثوى البطاركة le limbe de patriarches"(، الثاني مكان اإلقامة )ٔاو الحالة( الدائمة ألطفال )ٔاو ٓاخرین( غیر معمدین ماتوا بدون ارتكاب خطیئة كبیرة، والذین استبعدوا عن الرٔویة القدسیة بسبب الخطیئة األصلیة وحدھا )limbus infantium ou limbus pueroum : "مثوى الأطفال"(. عموما، تستخدم ھذه الكلمة كثیرا في اللغة المشتركة، بصورة مجازیة لإلشارة ٕالى حالة من عدم یقین، غیر محددة بدقة ٔاو حالة وسطیة وغیر واضحة.

  7. استھلالیة

    استھلالیة، مصطلح مشتق من الالتینیة limen التي تعني "العتبة" )عتبة باب، مدخل(. ٔادخلھا للمرة الأولى الأنثروبولوجي الفرنسي ٔارنولد فان Victor ثم طورھا الأنثربولوجي الاسكتلندي فیكتور تورنر (١٩٥٧، Bourg-la-Reine ١٨٨٣ ،لودفیغسبورغ) Arnold van Gennep جنیب

    Turner )كالسكو ١٩٨٣ - ١٩٢٠(. یستخدم مصطلح استھلالیة في الأنثروبولوجیة للدلالة على الغموض والارتباك الذي یحدث ٔاثناء المرحلة الوسطیة وبالخصوص ٔاثناء طقوس العبور، عندما یفقد المشاركون وضعھم السابق قبل-الطقس، ولم یصلوا بعد ٕالى وضع جدید یحدده الطقس: "فھم على العتبة"، بمعنى ٔانھم في حالة انتظار.

السابقالسابقالتالي التالي 
استقبالاستقبالطبع طبع  مارا ریسیو, جامعة جنيف (سويسرا) إسناد - غير تجاري - غير قابل للتغيير تم إنجازه بسيناري Scenari (نافذة جديدة)